fbpx

عودة للشحرور: عن الصيداوي وخديعة بيضة الديك

0 852

عودة للشحرور: عن الصيداوي و خديعة “بيضة الديك”!

لم يكن مستبعداً حصول حالة السجال السوري- السوري حول المفكر التنويري “محمد شحرور” على وسائل التواصل الاجتماعي كما جرت العادة، بمجرد انتشار خبر وفاة كاتب أو مفكّر سوري أو شيخ أو فيلسوف أو شخصية سياسية أو عسكرية. وما تلبث الحالة أن تتطور بالتدريج بالتزامن مع منشور عزاء أو ترَحُّم على المتوفى لتصل في أغلب الأحايين إلى مراحل متقدّمة من التخوين والإقصاء والتكفير، والاتهام بالتشدد والتعصّب والإرهاب، تتبادلها غالبية الأطراف السورية المحسوبة على المعارضة أو الثورة.
حصل ذلك، على سبيل المثال، عقب وفاة الشيخ “فتحي الصافي”، وأيضاً بعد وفاة كلّ من الساروت والطيب تيزيني، وربما وصلت الحالة اليوم إلى أوجها مع وفاة المفكر محمد شحرور.
فالشحرور من بين شخصيات جدلية عديدة برزت خلال العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الجديدة بالتزامن مع انتشار ظاهرة ما أطلق عليه “خطاب التجديد الديني” أو “التنويري” في الفكر الإسلامي، داخل المجتمعات العربية عموماً ومن بينها المجتمع السوري الذي شهد آنذاك ظهور محمد شحرور، سالكاً في البدء طريق المؤلّفات انطلاقاً من كتابه الأول الصادر في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين.
– “الكتاب والقرآن”: بداية المواجهة
برزت أهمية مؤلّف الشحرور الأول “الكتاب والقرآن” من تناوله لقراءات جديدة وجريئة في التفسير القرآني، مستنداً على كلمات وآيات القرآن الكريم نفسه والتفاسير المعتمدة لدى المسلمين انطلاقاً من خصوصية اللغة العربية واللسان العربي الذي يعتبره الشحرور كباقي الألسن “لا يحتوى خاصيّة الترادف، بل إن الكلمة إما أن تهلك عبر التطور التاريخي أو تحمل معنى جديداً”.
فاختلف بذلك عن المؤلفين، العرب والسوريين، الذين تناولوا دراسة القرآن والإسلام وبقية الكتب والديانات السماوية من خلال مقارنتها بالتراث وبحوادث التاريخ ونصوص الميثولوجيا والديانات المتعلّقة بحضارات وثقافات الشرق القديم عموماً، أمثال سيّد القمني وفراس السواح وطه حسين ومحمد أركون وغيرهم.
ينطلق الشحرور في قراءته الجديدة لتفاسير الآيات من إيمانه الراسخ بالرسالة المحمدية والقرآن الكريم لكنه يرفض، كما أسلفنا، مبدأ “الترادف” في اللغة الذي قال عنه: “كان القول بالترادف من أوائل ما استوقفني في الخطاب العربي السائد، سواء الديني منه أم الأدبي أم السياسي أم الفكري، وكان إنكار الترادف أول ما قادني إلى التمييز بين الكتاب والقرآن والنبي والرسول والنبوة والرسالة، تماماً مثلما ميز التنزيل الحكيم بين المحكم والمتشابه في آياته المباركات”.
و”الترادف” أساساً ليس من ابتداع المرحوم الشحرور، بل هو منهج اتبعه الكثيرون من اللغويين الأوائل أمثال “أبو علي الفارسي” و”علي بن عيسى الرماني” وغيرهما.
ويتابع الشحرور مستشهداً بقول الإمام العسكري: “لكل لفظ صورة ترتسم في الذهن، فإذا اختلف اللفظ، تغيرت الصورة، فارتفع الترادف”. وبما أن المعرفة الإنسانية تكتشف الجديد كل يوم ولا بد لكل جديد من لفظ يعرف به، لذا فإن للغات كائن قابل للتطور والنمو وخاصة في دلالات الألفاظ. وأكثر ما تنطبق هذه الخاصية على دلالات ألفاظ التنزيل الحكيم نظراً لصلاحيته لمختلف العصور ولمختلف نظم المعرفة، وضمن هذا المنطوق يمكن إعادة صياغة الثقافة العربية الإسلامية برمتها من خلال إعادة النظر في المفاهيم والأدوات.
ويكمل حديثه بقول الإمام ابن تيمية: الترادف في لسان العرب قليل، أما في القرآن فنادر أو معدوم. فإذا وجدت من يفسر قوله تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه) بأنه “هذا القرآن لاشك فيه” فاعلم أنه من باب التقريب، لأن “ذلك” غير “هذا”، و “الكتاب” غير “القرآن” و”الريب” غير “الشك”.
واستغرق “الكتاب والقرآن”، من البحث والتقصّي ما يقرب من عشرين عاماً حسبما ذكر مؤلفه، ووصل عدد طبعاته خلال العامين الأولين فقط لأربع طبعات وعشرات الآلاف من النسخ. وفي العام 2002 حقق أعلى نسبة مبيعات عربية في كل من أمريكا وإنكلترا والأرجنتين والأكوادور وأورجواي.
وتعرض الكتاب ومؤلفه لموجة هجوم “لم تقم على أسس علمية أو تأخذ صفة موضوعية ولكنها كانت اجتراراً للفهم القديم” حسب تعبير الكاتب والمفكّر الإسلامي “جمال البنّا” في كتابه (نحو فقه جديد/ ص205. ط1/ 1995م) ، الذي وبالرغم من اختلافه مع الشحرور في العديد من الآراء إلا أنه قال في معرض كتابته النقدية لبعض ما جاء في كتاب الشحرور الأول “وقد احتفلنا بالدكتور شحرور وكتابه هذا الاحتفال لأنه يمثّل المثقف المسلم والمفكر الذي يبدأ من منطلق إيمانه بالله وكتابه ورسوله ولكنه يعمل لكي يستخرج منه ما يوحى به العقل السليم والفكر المستقيم فنجا بذلك من التأثر بنظرة المستشرقين وزخرف قولهم الذي خضع له وتأثر به كثير من المثقفين المسلمين المعاصرين”.
وأغلب ما كان يوجّه لشحرور من حملات تشويه يطلقها بين الحين والآخر إسلاميون معادون للخطاب التنويري، تتمثّل في تصنيفه فكرياً ضمن التيار اليساري/ الماركسي تارة، وتارة أخرى في خانة العلمانية والليبرالية، بذريعة دراسته الهندسة المدنية في موسكو خلال مرحلة الاتحاد السوفييتي، ومن ثم حصوله على درجتي الماجستير والدكتوراه من أيرلندا.
ومن بين الأمثلة على الحملات الموجهة ضد الشحرور ما أورده الكاتب “محمد رفعت زنجير” في كتابه “اتجاهات تجديدية متطرفة ” (ص41): “يحاول الشحرور إسقاط التفسير المادي للتاريخ على التاريخ الإسلامي من خلال قانونه الجدلي، والجدلية نظرية فلسفية نادى بها إنجلز مثلما نادى ماركس بالشيوعية، وكلاهما يهوديان”!
وعلى الرغم من تعرّضه الدائم للهجوم، تابع الشحرور تأليفه للكتب خلال السنوات اللاحقة، فأصبح في رصيده 12 كتاباً آخر، اثنان منهما صدرا في جزأين، والكتب هي:
– دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع
– الإسلام والإيمان- منظومة القيم
– نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي – فقه المرأة
– تجفيف منابع الإرهاب
– القصص القرآني
– السنّة الرسولية والسنّة النبويّة: رؤية جديدة
– الدين والسلطة – قراءة معاصرة للحاكمية
– أمُّ الكتاب وتفصيلها – قراءة معاصرة في الحاكمية الإنسانية
– دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم – المنهج والمصطلحات
– الإسلام والإنسان – من نتائج القراءة المعاصرة
– القرآن في الفكر المعاصر.
– بالإضافة إلى كتاب باللغة الإنكليزية حمل عنوان (The Quran Morality & Critical Reason.)

– “بيضة الديك”: العودة إلى الواجهة:
وسط اشتداد معركة المواقع الإعلامية، عقب وفاته، بين الفريق المؤيد لطروحات الشحرور والفريق المناوئ، ظهرت منشورات على صفحات أعضاء من الفريق الثاني يوجهون انتقاداتهم اللاذعة. غالبية أولئك المنتقدين والمشككين بآرائه أشاروا في منشوراتهم إلى ردٍّ كان قد أصدره “يوسف الصيداوي” عقب صدور مؤلَّفه “الكتاب والقرآن” في العام 1990.
والصيداوي هذا هو أحد المتخصصين الضليعين بعلوم وآداب اللغة العربية في سوريا، وهو مقدّم البرنامج التلفزيوني الشهير “اللغة والناس” الذي يذكره غالبية من عاصر مرحلة ثمانينيات القرن المنصرم.
ومن بين الشخصيات التي أتت على ذكر قصة الردّ نشر السياسي والحقوقي المعارض “هيثم المالح” على صفحته الخاصة منشوراً أثار حفيظة شريحة واسعة من السوريين لاستخدامه عبارات مسيئة بحق الكاتب المتوفى. واحتوى المنشور على التالي:
انتهت حياة محمد شحرور ، وأضحى بين يدي رب العباد الذي له الأمر كله ، وأُطلق عليه لقب المفكر، وهو فعلا مفكر، وكذلك كان إبليس مفكرًا حين جادل خالقه ورفض السجود لآدم عليه السلام كما أمره ربه، ثم طلب من ربه إمهاله في العمر وعدم إنهاء حياته واستجاب الله وأمهله ، برغم أنه قال لربه الذي خلقه بأنه سيحاول إضلال عباده .
وبالتالي ليس بالضرورة ان يكون المفكر على حقّ أو أنه يسعى لفائدة الخلق، وللحقيقة فقد تصدى محمد شحرور لعلوم القرآن الكريم، وغاص فيها وهو لا يمتلك أولى المؤهلات لذلك، ألا وهي علوم اللغة العربية.
ولعل أهم من ردّ عليه هو الأستاذ صيداوي صاحب برنامج اللغة والناس في كتابه ( بيضة الديك) حيث بيّن في هذا الكتاب جهل محمد شحرور باللغة العربية، جهلا مطبقًا” .
في الحقيقة، أثّرت بي الإساءات التي طالت الشحرور، رغم أني لم أقرأ من كتبه سوى بضع صفحات من كتابه الأول منذ ما يزيد عن عشرين عاماً، ولم أشعر بالرغبة في إكماله.
ولكن منشور المالح الأخير فاجأني وصدمني بشدة كونه صدر من شخصية كان من المفترض أن تتصف بالحياد أو على الأقل أن تحتفظ بموقفها المعارض لطروحات الشحرور منعاً لازدياد حالة الشقاق الحاصلة بين الأطياف السورية، ولكن على ما يبدو ستبقى الأدلجة تهيمن على الساحة وتطغى على أي اعتبارات وطنية.
وأثار المنشور بداخلي رغبةً جامحة للاطلاع على ما جاء عليه كتاب الشحرور بصورة أكثر دقّة وبعيدة عن المقتطفات التي نشرت عنه هنا وهناك. فعرجت خلال الفترة الماضية على قراءة نسخة إلكترونية له، ثم انتقلت بعدها لقراءة الردّ الذي جاء في كتاب “بيضة الديك”.
– خلاصة “البيضة” و”الديك”:
النقد الذي اعتمده الصيداوي في “البيضة”، وصَفَه بدايةً في الصفحة (10) من الكتاب بقوله: “إنما نظرت في كتاب المؤلّف من جهة اللغة، موادها ونحوها وصرفها، ولم أعرج على ما فيه من تحريم حلالٍ أو تحليل حرام أو إباحة محظور”.
ثم صرّح، في الصفحة ذاتها، بأن نقده “اللغوي” لمؤلَّف شحرور كان دافعه “إلحاح فريق من الأصدقاء لأنظر في ذلك الكتاب وأبيّن لهم من بعد: أهذا الذي استحدثه المؤلّف حقّ ترضى به اللغة وتقرّه، فيأخذوا به في شؤون دينهم ودنياهم؟ أم هو باطل لا أساس له، فينجوا منهم بدينهم ودنياهم؟”.
وعلى الرغم من التناقض الواضح في المقطعين الواردين، من حيث ادعائه في الأول بأن نقده وتصويباته ستتناول ما يخصّ الجانب “اللغوي” فقط وربطها في الثاني بالجانب الديني. وعلى الرغم أيضاً من بيان “إلحاح أصدقائه” لينظر في الكتاب، وكأنهم على معرفة مسبقة بانتشار أخطاء لغوية قاتلة سينبري للتصدي لها السيد الصيداوي (صاحب برنامج اللغة والناس) ولا أحد غيره! على الرغم مما سبق سنحسن الظنّ بنظر الصيداوي في الكتاب وحياديته وصوابية آرائه اللغوية الناقدة لكلمات الشحرور.
ينطلق الصيداوي في “دحضه” لمعاني وتفسيرات الكلمات –وسنسلّم بعدم صحة التفسيرات- الواردة في “الكتاب والقرآن”، عبر استخدامه طريقة “الترادف”، نفسها التي يأبى الشحرور التسليم بوجودها في اللسان العربي بصورة أقرب ما تكون إلى “الفذلكة” منها إلى الأسلوب العلمي المنهجي. ومن بين الأمثلة على ذلك احتجاجه على معنى كلمة (كتاب) التي ذكرها الشحرور بقوله “الكتاب من كتب، والكتاب في اللسان العربي تعني جمع أشياء بعضها مع بعض لإخراج معنى مفيد، أو موضوع ذي معنى متكامل”. فأفرد الصيداوي ما يقرب من 20 صفحة لإثبات “لا مصداقية” الشحرور في المعنى الذي أورده متهماً إياه بأنه “ارتجله” ارتجالاً ولا وجود له في قواميس اللغة العربية ولا “اللسان العربي”، وطالما أن مؤلّف الشحرور يقوم أساساً على دراسة الفرق بين الكتاب والقرآن، فالصيداوي يدرك تماماً مدى الزلزال المدمّر الذي سيصيب المؤلَّف في حالة نقض المعنى الذي أورده الشحرور بصورة مبسطة ومختصرة كما سيأتي معنا.
فيقول الصيداوي في مطلع ردّه على تعريف الشحرور لـ (الكتاب)-ص12: “قد بحثنا عن تعريف الكتاب فأطلنا البحث في الجمهرة والصحاح والمخصص والبارع والأساس والتاج واللسان والقاموس والمقاييس والمجمل فلم نجده فيها، فجاز لنا أن نقول بأن المؤلف ارتجله”.
ثم يتابع الصيداوي ضمن سياق الردّ في الصفحة ذاتها فيقول “في لسان العرب، الكتاب: اسم لما كُتب مجموعًا.. والكتاب ما كُتب فيه”..!
والسؤال الآن: ما هو الفرق بين تعريف الشحرور للكتاب في قوله ” الكتاب من كَتَب، والكتاب جمع أشياء بعضها مع بعض لإخراج موضوع ذي معنى متكامل” وبين تعريف الصيداوي الذي استخرجه من “لسان العرب” وينصّ على “الكتاب: اسم لما كُتب مجموعًا.. والكتاب ما كُتب فيه”؟
لنكمل..
ويعرج الصيداوي على التعريف الذي أورده الشحرور عن (الكاتب) بقوله: “الكاتب ليس المقصود به هو من يخطّ الخطّ بتاتاً وإنما المقصود به من يكتب المواضيع ويؤلف الجمل ويربطها ببعضها البعض”.
وبصورة يحار القارئ في مقصدها وأبعادها وعلاقتها بصفة (الكاتب) التي جاء على تعريفها الشحرور؛ إذ يورد الصيداوي الآتي- ص17: “الناحية الأولى يتضح فيها الخلل، إذا صغت على هذا القالب نفسه جملة حسيّة، وذلك كأن تقول مثلاً: (وعندما نسمّي فلاناً نجاراً نقصد الأخشاب أو عندما نسمي فلاناً جزاراً نقصد البقر.. إلخ).. وهذا واضح الفساد، فلا النجار خشب ولا الجزار بقر ولا الكاتب مواضيع”..!
يريد الصيداوي هنا حصر عمل الكاتب فقط بخطّ الحروف ونفي فكرة الشحرور الذي أشار بأن الكاتب هو صانع الموضوع الذي يكتبه، فيلجأ إلى مثال الجزار والبقر، والنجار والأخشاب. على الرغم من أن القاصي والداني يعلم جيداً بأن النجار هو ليس فقط الذي يقص الأخشاب وينشرها وإنما الذي يصنع منها ما يفيد من أثاث، وذلك اختصاصه. وكذلك الأمر بالنسبة للجزار الذي لا تقف وظيفته على نحر البقرة أو قتلها مثلاً وإنما على طريقة السلخ والتقطيع وتشفية اللحم.. إلخ، وإلا لأصبح جميع الناس جزارين ونجارين، وكذلك الأمر بالنسبة لـ (الكاتب) فلو كان هو فقط الذي يخط الكلمات بدون إنشاء موضوع أو صياغة تعبير لأصبح كل من يعرف الكتابة كاتباً.
وما يزيد الغرابة حقيقةً هو إجماع غالبية المعاجم على تعريف (الكاتب) بأنه: “العالم والمؤلف والأديب” /معجم الرائد/، ولم يرد بصفة “الخطّاط” مثلاً!
ويستمر الصيداوي على هذا المنوال في “تصويباته” وحججه اللغوية في كامل صفحات كتابه “بيضة الديك” التي بلغت (265) صفحة، مستهدفاً فيها ما ورد في أقلّ من 15 صفحة من كتاب الشحرور المؤلَّف من (825) صفحة.

ومن يقرأ كتاب الصيداوي ستتبين له الحالات الكثيرة التي يناقض نفسه فيها متجاوزاً الإطار اللغوي ليتحوّل إلى المحاكمة والمناقشة الدينية الصرفة في العديد من المواضيع الفقهية التي تناولها الشحرور في مؤلّفه.
إلا أن الكتاب لم يخلو بالطبع من أخطاء نحوية ارتكبها الشحرور خلال تأليفه الكتاب. ولكنها، بالرغم من فداحة بعضها، إلا أنها تبقى محصورة بتعابير وسياقات حديث الكاتب الشخصية ولا تؤثّر على محور النصوص الدينية أو الفقهية أو آيات الذكر الحكيم. وأغلب الظنّ أن الشحرور استسهل استخدام بعضها ومنها ما يستخدم في اللهجة العامية، كما حصل معه في الفعل (يزاود) الذي نستخدمه في العامية بدل (يزايد)، كما أخطا حين نصب المرفوع في جمع المذكر السالم في عبارته “هؤلاء الأخيرين”، بدل الأخيرون، وارتكب خطأ آخر في كتابته جمع (ثقة) فكتبها (ثقاة) بدل (ثقات). إلا أن الصيداوي أفرد عشرات الصفحات لعرض هذه الأخطاء وغيرها بصورة مغرقة في المبالغة لا سيما المتعلقة بالخطأ الأخير (ثقاة) الذي خصص له ما يقرب من 4 صفحات!
وراح الناقد اللغوي يدقق على استخدام المؤلّف لعبارات وجمل غالباً ما يقع فيها الكُتّاب من غير المختصين باللغة العربية، ومن بينها على سبيل المثال: (المذكورة أعلاه) وبحسب الصيداوي يجب أن تكتب (المذكورة آنفاً). و(حتى ولو) يجب أن تكون (وحتى لو). (نعم) والصواب (بلى)!
وبالتزامن مع طرح تلك “الأخطاء اللغوية القاتلة” حرص الصيداوي على تكرار “دسّ” عبارة (أستاذ المؤلّف) أو (تلميذ الأستاذ) ويقصد الشحرور. في إشارة تحريضية للقراء إلى الأستاذ الذي استقى منه الشحرور علومه في اللغة العربية بأنه ذو أصول (سوفييتية/ ماركسية)، والغرض واضح من تلك الإشارة وهو الدلالة على ميول الأستاذ “الإلحادية” والمعادية للإسلام وبالتالي فـ “تلميذه” الشحرور من الطبيعي أن يحذو حذوه.
وعلى أية حال، من السذاجة بمكان التصديق بأن يوسف الصيداوي وأصدقاءه الذين دفعوه لتصويب الكتاب “لغوياً” –كما ادّعى- قد كانت غايتهم لغة الشحرور والعيوب التي وقع بها، وهي بلا شك غير مبررة، إلا أنهم كانوا يرمون إلى التقليل من قيمة وجدّية التجربة التي أثارها الشحرور في ذلك الزمان والعمل على تشويهها من الداخل عبر الطعن بالقاعدة الرئيسة التي انتهجها المؤلف في قراءته الجديدة للنص الديني، الذي يؤمن به وبتنزيله، ونقصد بها اللغة وعلم اللسانيات.
ختاماً، ينبغي أن أشير إلى جانبين، يرتبط الأول بمحتوى الموضوع والثاني يتعلّق بشخص الكاتب يوسف صيداوي.
فبعد قراءة “الكتاب والقرآن” و”بيضة الديك”، تبيّن بأن غالبية الأخطاء اللغوية التي أتى عليها الكتاب كان بمقدور أي مطّلع على قواعد اللغة العربية اكتشافها بسهولة تامة، ولم تكن تحتاج لشخص بإمكانية وشهرة الصيداوي ليثبت وجودها، ولا لكتاب ضخم بحجم “بيضة الديك” ليغطي عيوبها، هذا ما يخص الجانب الأول.
أما الجانب الثاني، فتبيّن لي خلال متابعتي لمؤلفات وكتابات الصيداوي بأنه كان بصدد تأليف كتاب بعنوان “على هامش اللغة في القرآن”، يتناول من خلاله، بحسب دراسة أعدّها مكّي الحسني في مجلة الفيصل. العدد 334/ يونيو 2004. ص117، “الغوص في معاني اللغة القرآنية وتطورها وصولاً إلى المعنى المقصود في الآيات. لكنه لم ينجز منه سوى دراسة سورة البقرة”.
وحاولت جاهداً الحصول عليه وإلقاء نظرة على مضمونه، كونه يتّبع نفس أسلوب الشحرور في دراسة القرآن الكريم استناداً على البناء اللغوي، لكني وللأسف لم أستطع الحصول على أي نسخة ورقية أو إلكترونية للكتاب المذكور. وقد أبلغني بعض الأصدقاء بوجود نسختين منه، واحدة في أرشيف مكتبة الأسد ولا تتم إعارتها إلا بطلب خاص، والثانية ضمن رفوف مدرسة (المحسنية) الخاصة التي أوصى الكاتب بالتبرع بمكتبته كاملة لها بعد وفاته في العام 2003، وهذه المدرسة كانت قد تكفّلت بتعليم الصيداوي خلال مرحلة ما قبل الجامعة، كونها ترصد جزءاً من أقساطها المرتفعة نسبياً لتعليم أبناء الأسر الفقيرة من شيعة دمشق، والصيداوي هو أحد أبناء تلك الأسر. كما وعمل الصيداوي محاسباً في تلك المدرسة الواقعة في حيّ (الأمين) في قلب دمشق القديمة لمدة وجيزة قبل ظهوره في برنامج “اللغة والناس” الذي استمر لنحو 11 عاماً ابتداءً من سنة 1983.
ومن بين أكثر العبارات المثيرة للحيرة تلك التي ذكرها الصيداوي في أحد مؤلفاته، “الكفاف” (ص54)، حين اعترف: “من كان يريد أن يحسن اللغة، فسبيله استظهار روائعها، لا قراءة النحو واستظهار مسائله! كل كتب النحو، كلها كلها، من كتاب سيبويه فنازلاً، لا تعدل في موازين إحسان اللغة مثقال ذرة من (وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين)”.
وأظن أن هذا الاعتراف لوحده يكفي لنسف كل ما أورده في البيضة وديكها.
ــــــ انتهـــــى ــــــ

“جميع المقالات تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي NINARPRESS”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني