fbpx

طريق العدالة الوحيد

0 284

تتوالى الأحداث السورية والعربية والعالمية يوماً بعد يوم، ويزداد المشهد السوري تعقيداً وتداخلاً في حصيلتها، ويواصل السوريون أحلامهم بأن يفضي كل ذلك لخط مسار العدالة السورية بقدرة قادر. غير أن التدقيق الموضوعي المتحرر من تأثيرات العاطفة والرغبة كلياً، يكشف بوضوح شديد القسوة مدى ابتعاد المسار السوري عن مسار العدالة المنشود، لصالح مسارات أخرى تتناقض في جوهرها مع قيمة ومفهوم العدالة، مسارات ترسم حدود المصالح الدولية والإقليمية في سورية، المبنية على حساب سورية والسوريين. فلا طائل اليوم من استمرار التعلق بأوهام انتصار هذا الطرف أو ذاك للحق والمصلحة السورية، بل لا طائل من التعويل على تقاطع مصالح أي من الأطراف والقوى الخارجية مع مصالح الشعب السوري ولو جزئياً. إذ تخضع العلاقات والمصالح الدولية لموازين مختلفة لا تندرج مصلحة الشعوب والأوطان في أي من طياتها. ولنا بالعديد من الشواهد المستقاة من التجربة السورية المريرة في السنوات الماضية، ومن تجارب الشعوب والدول العربية المجاورة كفلسطين واليمن ولبنان.. إلخ، فضلاً عن التجارب العالمية الناضحة بذات النتيجة.

طبعاً، لقد أدرك الجزء الأكبر من السوريين ذلك في داخلهم، غير أن هناك قلة قليلة منهم تجرأت على قوله بكل وضوح، نتيجة عوامل عديدة، منها اليأس من قدرتنا على التأثير والتغيير، الخشية من عواقب هذا الإقرار على المستويين الخاص والعام، لاسيما بما يخص دفن الأمل بتحقيق العدالة والحرية والمساواة ولو بعد حين. غير أني لا أتفق مع هذه المخاوف بل واختلف معها بشدة، كوني أعتقد أن إقرارنا بهذه الحقيقية الساطعة اليوم هو بمثابة خطوة أولى نحو تغيير مسار الأحداث وبالتالي تغيير النتائج، كما أعتقد أن في حيثيات الواقع السوري وربما العالمي رغم سوداويتها القاتمة، مقومات هائلة لصناعة التغيير الجذري، تغيير ينتصر لقيم العدالة والحرية والمساواة، إن أدركناها أولاً، وعملنا عليها ثانياً، ونجحنا في تحويل سيف الوقت من خطر محدق بنا وبحقوقنا، إلى خطر محدق بمصالح أعداء سورية والسوريين، من المتكالبين عليها وعلينا.

فمن حيث المبدأ لن يساهم صمتنا ونكوصنا عن الإقرار بهذه الحقائق اليوم، في تعديل المسار العام أو حتى في تحسين نتائجه النهائية، بل على العكس تماماً، يساهم صمتنا وتخاذلنا عن مواجهة الحقيقية، في تعزيز المسار المناقض لحقوقنا الطبيعية والوطنية، ويساهم كذلك في إفساح المجال أمام القوى الخارجية لتعيث فساداً وتخريباً بتركيبتنا وعلاقاتنا المجتمعية من ناحية، ولنهب ثرواتنا الفردية والجماعية من ناحية ثانية، وهو ما يراكم صعاب جديدة يومياً. كما يمثل الإقرار بأخطاء الماضي ومن ضمنها خطأ التعويل على مصالح القوى الخارجية في التغيير، بارقة أمل وطنية للسوريين، على اعتبارها بداية لخط مسار مغاير يتمتع بالجرأة والشجاعة الكافيتين لنقد وإصلاح أي مظهر من مظاهر الخلل الماضية والحاضرة والمستقبلية حكماً. وبالتالي فهو بمثابة خطوة ضرورية للانتقال من حالة استسلام السوريون لليأس الفردي، إلى حالة مواجهة اليأس وأسبابه ومسبباته، وهو ما يشيع الأمل الحذر المدعم بقوة المنطق والتحليل والتنظيم. إذاً، لا يحتاج الشعب السوري اليوم إلى بث آمال واهمة وخادعة جديدة، بقدر حاجته لتلمس أمل العمل والممارسة المتناقضة مع الأمر الواقع بأسرع وقت ممكن.

كما لا يخلو مشهد الفوضى الدولية العارمة داخل وخارج سورية من عوامل نابضة بالأمل المشروط بالفعل المنظم، بعيداً عن أوهام التعلق والتشبث بنتائج التوازنات والتفاهمات الدولية أينما وكيفما كانت، حيث يتضح من التمعن في المرحلة الدولية الراهنة، أننا نعيش نتائج انحسار السيطرة الأمريكية؛ ذاتياً أم موضوعياً لا فرق هنا؛ انحسار لا يلغي تفوقها وعوامل قوتها، بقدر ما يحدد عجزها عن التحكم بكامل العالم أولاً، وتخبطها الاستراتيجي لاسيما على مستوى العلاقات الدولية واتجاهها، وتنامي المصالح والقوى الدولية الأخرى على تناقض مع المصالح الأمريكية، أو على تناقض مع بعض التوجهات الأمريكية. وهو ما ينعكس في تنامي المطامح الدولية من ناحية، وارتفاع مستويات الثقة بقدرة الدول على فرض مصالحها بمعزل عن الحماية أو الإرادة الأمريكية، أو حتى التنظيم والترتيب مع الجانب الأمريكي.

وهي مؤشرات هامة توحي بتضعضع المنظومة العالمية المسيطرة، رغم توافقها العام المبدئي تجاه الحركات التحررية والثورية الساعية لبناء مجتمع ودول تكرس قيم العدالة والحرية والمساواة. أي لا توحي الفوضى الدولية الحاصلة عالمياً بإمكانية التعويل على انتصار هذا الطرف أو ذاك لمصلحة وغايات أي من شعوب العالم وعلى رأسها شعوب منطقنا العربية، بحكم طبيعتها الجوهرية الاستغلالية عموماً. بقدر ما تبرز حالة عدم الاستقرار وغياب التوافق الدولية، حجم استنزاف الجهود والإمكانيات الدولية في صراع مكوناتها في أكثر من مكان وعلى أكثر من قضية. وهو ما يمنح الشعوب مزيداً من الوقت كي تنظم ذاتها وتحدد آلياتها ووسائلها وأهدافها من ناحية، وكي ترتب تحالفها العضوي فيما بينها، تحالف الشعوب المناضلة من أجل الحرية والعدالة والمساواة، في مجابهة كامل منظومة الإجرام والاستبداد والاستغلال من ناحية ثانية. كما أن الوقت بمثابة سيف قاطع ومؤثر في حسابات المصالح الدولية، ما يجعله ورقة رابحة بيد الشعوب إن أحسنت استغلاله وتحويله إلى عملية تراكم نضالية مستمرة وفق نهج واضح ومحدد.

أي علينا تجاوز آمال التعويل على الخارج فوراً، والتحالف مع الحركات الثورية العربية والعالمية الساعية لبناء عالم أفضل، يكرس منطق الحق على حساب منطق القوة، فالحق والعدالة والمساواة قيمة إنسانية سامية وعابرة للحدود والانتماءات واللغات، لذا علينا الانتصار لها في كل بقعة من بقاع الأرض، مهما كان ثمن هذا الانتصار الآني – لأن ثمن تحويل هذه القيم الإنسانية العليا إلى سلعة قابلة للمساومة والمتاجرة هنا أو هناك – فادح وخطير علينا قبل غيرنا، وسندفع ثمنه كاملاً من حياتنا وحقوقنا وثرواتنا، عندما تتوافق المنظومة العالمية عاجلاً أم أجلاً على كيفية توزيع الثروات العالمية ومناطق النفوذ فيما بينها، على حساب حقوقنا نحن وحقوق مجمل شعوب العالم ولاسيما العالم الثالث الذي نقبع حتماً في قلبه.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني