fbpx

خليك بالبيت!

0 350

راقت لي العبارة:

خليك بالبيت!

لا أدري، من هو أول من أطلقها، إلا أن فرض سطوة عبارة ما، بات جدّ سهل، في ظل مرحلة ثورة الاتصالات، وتوفر شبكات التواصل الاجتماعي التي بات بإمكانها تمرير، أو تسويق أية أفكار، أو آراء، أو عبارات، إن كان وراءها مؤسسة، أو مجموعة، أو حتى فرد ذو حضور، ولعلنا وجدنا في حالات كثيرة أنه يخطر في بال أحد ناشطي الفيسبوك أمر ما. موقف ما. حالة ما، فيطلقها، ليتبناها الآلاف من حوله. من حول العالم، إن لم نقل أكثر، ومن هنا، فإن عبارة “خليك بالبيت” التي تمت صياغتها بدقة لا متناهية، جاءت لتعبر عن طبيعة المرحلة التي نمرُّ بها، بل إن لها أبعاداً كثيرة، جاذبة بالنسبة إلى متلقيها. من تتم مخاطبتهم، وهم الجمهور الكبير المعني، في هذه اللحظات الاستثنائية من تاريخ البشرية، إذ إن المواطن العالمي، بات مكرهاً أن يظل في البيت، قبل إطلاق العبارة، بل إن العبارة أتت أصلاً كتحصيل حاصل لواقع محرج نمر به!

خليك بالبيت!

ولأن المخاطب هنا ليس إلا شخصاً، أعدُّه: أنا – هنا – أعني أعتبرني هو نفسه، أياً كان من هو وراء إطلاق العبارة، لذلك فإنني أعنيني هنا، وأنا أكتب سلسلة يومياتي، في ظلِّ سلطة “كورونا”. الحاكم الكوني المطلق، الذي بسببه “أبقى في البيت” وفعل قبلي ذلك الملايين، بل لربما المليارات، وأنا الآن أقتفي أثرهم. أسير على دربهم، أنفذ التعليمات الأكثر أهمية في هذه الأيام، لكل من يريد أن يقدِّم أسباب استمراريته في الحياة. الحياة التي جاء شبح “كورونا”، ليقول لنا: كم هي جميلة، مدهشة، لذلك، فها أنا أسعى لأسلبها منكم، بل لأسلبكم منها. إنها أعظم ما في الوجود، بل إنها الوجود، كل الوجود!

أجل، ها يصلنا النداء “خليك بالبيت!”، وها نحن جميعاً نلبيه، سرعان ما نلبيه، لأنه لم يأت اعتباطاً، لم يأت إلا استجابة لضرورة، هي أعظم ضرورة في حياة الفرد، الأسرة، المجتمع، البلد، الوطن، العالم، لأن البقاء في البيت، أو الحجر الصحي، طوعياً كان أم إلزامياً، هو ليس لصون حياة أحدنا – واحده – فحسب، وإنما لصون حياة من حوله. الالتزام الجماعي بالحجر الصحي إنما هو نجاة لجميعنا، بينما اختراق هذا الحجر، عبر أي خلل ولو كان فردياً، من شأنه أن يوسع دائرة ضحايا هذه الجائحة الذين قد يلتقط أحدهم الفيروس عن طريق مصافحة، أو هواء علق به الفيروس أو- نتيجة عبور مصاب بالقرب منا – أو نتيجة سهو في مسِّ سطح ما، ملوث، وما أكثر وسائل العدوى، وما أقلَّ وأضعف حيلة المرء، حتى الحريص، في حماية ذاته ومحيطه، ولذلك فإن خير وسيلة لمواجهة الآفة هي المكوث في البيت إلى أن يزول وجود هذا الوباء، أو يتم الوصول إلى تأمين لقاحات أو أدوية للتخلص من بين براثنه الفتاكة.

“خليك بالبيت”، العبارة سهلة، وجميلة، إلا أننا اعتدنا على تطبيقها، آلياً، في حياتنا اليومية ساعات، أو حتى خلال مجرد يوم، أو أكثر، تحت وطأة الواجبات الاجتماعية، أو العمل، أما أن يتحول البيت إلى زنزانة أسرية، ضمن سجن كوني كبير، فهو ما لم نعتد عليه البتة، وإن كان ذلك سيذكرنا بأوضاع المعتقلين، والسجناء، لاسيما من يسجن، وينسلخ من حريته، من أجل حريته، حيث المفارقة الكبرى، لاسيما عندما تطول مدة الاعتقال سنوات، والأكثر إيلاماً من ذلك حين يكون مكان الاعتقال مجهولاً، ولا أحد من ذويه يستطيع معرفة مصيره، بل ولا هو يعرف أي شيء عن ذويه، عن العالم الخارجي، بل وذروة التراجيديا أن تكون ظروف المعتقل سيئة، كأن يحشر أربعون أو ستون شخصاً في غرفة، من أمتار مربعة، مكربنة، لا تتسع لأكثر من أربعة أشخاص، ما يضطرهم للنوم، عبر نظام” الوجبات” أو” الورديات”، أو التسييف، لتتحول غرفة سجنهم إلى “علبة سردين”، ولعلَّ عدم أخذ القسط الكامل من النوم، هو بحد ذاته عقوبة عظمى، في ظل حالة الرعب، وتكون المأساة أعظم، أعظم، أعظم، إن كانت هناك حفلات تعذيب تنتظر كلاً منهم على حدة، بل ثمة دور بالتصفية الجسدية، في انتظارهم، واحداً واحداً!

مفردات مشاغل البيت كثيرة، ولا أظن أن أحداً قادر على إنجازها، لاسيما إذا كان الأمر إبداعاً خالصاً، لأن الإبداع ذاته يتطلب عنصر الحرية غير المتوفر، بالرغم من أن ظروف الحجر الصحي تكون مع أفراد الأسرة، وكل وسائل الراحة والحياة التي يستطيع المرء تأمينها ستكون متوفرة، ناهيك عن وسائل التواصل مع الآخرين، إلا أن الحياة هي الالتقاء بالناس، لاسيما من قبل شخص مثلي، اعتاد اللقاء بالناس، والخروج إلى الطبيعة، حتى وإن كنت سأصبح من عداد الملتزمين بالبيت – لاسيما بعد هجرتي – خلال عشر سنوات ونيف من تجرع أولى مرارات هذه المغامرة الاضطرارية، بيد أن معرفة أن هناك موانع ذاتية، وموضوعية، تحول دون ذلك، تشعر المرء بتوتر داخلي عظيم!

وطبيعي، أن تكون لكل امرئ مشاغله، فثمة من يضيء ساعات العزلة بالتفاعل مع أسرته، وإشعال فتيل الذكريات، واستعراض قصص الحياة، والتاريخ. ثمة من يجري مراجعات تقويمية لذاته، كي يكون في مرحلة ما بعد” البيت” مختلفاً، على نحو إيجابي، عن مرحلة ما قبل البيت، لاسيما إن للحجر فوائده اللامتناهية، لأنه نبهنا إلى أنفسنا، والمقرَّبين منا والعالم، ولعلنا. لعل المعنيين بأمورنا يتعظون، بما يخدم العالم، وهو موضوع متشعب، لابد من تناوله، منفرداً. وثمة من يقرأ، أو من يعمل لصالح مؤسسته، أو من تملأ أنثى بالقرب منه، أو خارج حدود البيت، حياته، وثمة من تطبخ، بعناية فائقة، وتنظم برنامج أسرتها البيتي، على نحو أفضل من ذي قبل، كما أن هناك من سينشغل بالتلفاز، وشبكات التواصل الاجتماعي، والهاتف، ليكون موضوع “متى ينتهي الحجر الصحي؟” أول تلك الأسئلة، من دون أن ننسى كثرة الشائعات التي سيغذيها الانتشار الرهيب للفيديوهات، والرسائل الصوتية، والأخبار، لاسيما فيما يخص اكتشاف اللقاحات والعقاقير، وإصابات بعض الأشخاص، بهذا الوباء!

في الوجه الآخر من “خليك بالبيت”:

أن يخلد أحدنا في بيته، مع أسرته. أبنائه، بناته. ذويه فهذا يخلق الطمأنينة لديه، إزاء كويئن، لقيط، مجهول الأبوين، فتَّاك، لا مرئي، بأذرع وأرجل، أخطبوطية، يعد الاعتزال. الاعتكاف في البيت، أحد سبل التخلص من الأخطار التي يلحقها ليس بمجرد كائن واحد في المنزل، وإنما بكل أسرته، ولقد حدث أن كانت هناك – أسرة كاملة – دفعت حياتها بسببه، وإذا كان في هذا ما ينم عن هزيمة – العقل البشري – في لحظته الـ – ما بعد حداثية – هزيمته وهو في أعلى درجات سلم التطور، والحضارة، والإنجازات، كما أنه إقرار بجبروت ما هو الأضعف – ميكروسكوبياً – بحيث أن حجمه لا يتعدى الـ 400-500 ميكروكروب، ومن دون أن يرتقي إلى درجة الرؤية، أو حتى الحياة، فإن في ذلك لغزاً يستحثُّ مملكة الكائن الآدمي ليكون دائم التأهب والترقب في مواجهة المجاهيل التي تهدِّد حياته، وتدعوه لإزالة كل ما يشوب استغلال الإنسان للإنسان، وممارسة الدكتاتورية بحق الآخر، أياً كان، وإزالة كل الخلافات في الخريطة الكونية!

بلى، كل هذا، وثمة جانب آخر، لابد من الإشارة إليه ألا وهو أن أنظمة الاستبداد، لطالما حاولت فرض العزلة على جماهيرها، كي تتقوقع، وتخاف حتى مما هو هلامي، لتوقن أن مصائرها بأيديها، وهذا ما لا تبدي له هذه الجماهير ذاتها أية أهمية، في ظل سقوط آلة الخوف، لأن الأنظمة الدكتاتورية التي تخاف شعوبها، وتعمد إلى إرهابها، تحاول تجيير حتى آفة دولية، كما” كوفيد19 ” في خدمة ديمومة سلطتها، ومن هنا، فإن المكوث في البيت. العزلة، استمرار الحجر الصحي، يدخل في إطار خدمة الأنظمة القمعية، وإن كان حجز المواطن، حجره، في بيته يكثف شحنات الاحتقان في داخله. هذه الشحنات التي قد تتفاقم، في الموقف من آلة الرعب، وهي تتكهرب، تتدنمت!؟ 

خليك بالبيت

عبارة، تحتمل أكثر من بعد، وبعد!

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني