انفجار بيروت وتداعياته في سورية والعراق
يعود مصير دول شرق البحر الأبيض المتوسط، الخاضعة حالياً للنفوذ الإيراني بصورة ما، سورية والعراق ولبنان، إلى الواجهة مرة أخرى بعد انفجار مرفأ بيروت. نجا لبنان من حكم البعث الاستبدادي، بشقيه السوري والعراقي، وحصل على ضربٍ من الحماية السياسية الغربية لصيغته الديمقراطية الهشة، القائمة على المحاصصة الطائفية والموسومة بحروب دورية وتدميرية تفجرها مظالم طبقية وطائفية، وتوارت تناقضاته وراء واجهته البحرية، التي تقع بيروت في موضع القلب منها.
وإذا كان لبنان قد “تمتّع” بديمقراطيته الهشة هذه، فإن شقيقتيه، العراق وسورية، اختزنتا تناقضاتهما الاجتماعية الأهلية بفعل الحجر الذي فرضه عليهما الاستبداد البعثي، فكان أن انفجرت الفتن النائمة في العراق بعد الاحتلال الأميركي 2003 وفي سورية عام 2011، لتحدث دماراً مادياً وبشرياً رهيباً، لم يتعاف منه العراق حتى الآن وما تزال سورية تئن تحت وطأته. كانت القسوة التي وسمت الاستبداد البعثي وراء كل هذا الخراب، ولا ينفصل ذلك عن الدور الوظيفي لكلا النظامين العراقي والسوري في ضبط المشاعر العاطفية لشعبيهما ضد “إسرائيل”، فكانت المصلحة هي في التجييش المضبوط، فتتوهم الجماهير وطنية الحكم، وتحصل “إسرائيل” على أمنها.
انتهى هذا الدور الوظيفي المدعوم من قبل دول الغرب، على رأسها الولايات المتحدة، بعد سقوط النظام العراقي والثورة السورية، ودخلت إيران على الخط بقوة للهيمنة على العراق وسورية بعد لبنان، وجلبت معها دماراً من نوعٍ آخر، ومنه انفجار مستودعات نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، والذي لا يمكن فصله عن الفساد وهيمنة حزب الله على مقدرات لبنان.
ومهما تكن أسباب هذا الانفجار، فإن معالجة آثاره لن تقتصر على إعادة بناء ما تم تدميره، إنما تفتح ملفات عدة، منها مصير الطبقة السياسية الحاكمة منذ اتفاق الطائف، والمستمدة بقايا شرعيتها من صيغة عام 1943 المنتجة لأزمات لبنان الدورية. وكان اللبنانيون الذين نزلوا إلى الشوارع قد عبروا بوضوح عن الرغبة في التحرر من قيود هذه الصيغة والانتقال إلى صيغة ديمقراطية أرقى تقوم على المواطنة والمجتمع المدني، كسبيل وحيد للخروج من التوترات الأهلية الطائفية، وما يتبع ذلك من تنحية الطبقة السياسية الفاسدة والمنتجة للفساد، والتي يهيمن عليها ويديرها حالياً حزب الله لصالح المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة.
وإذا كان الشعب السوري ما يزال يخضع لسيطرة قوى الأمر الواقع الاستبدادية، المحمية بنفوذ الدول المهيمنة، ومنها إيران، فإن نواة التحرر من النفوذ الإيراني ومرتكزاته المحلية قد عبر عنها المتظاهرون العراقيون واللبنانيين في السنتين الأخيرتين، ما قد يرسم طريق الخلاص من الواقع الحالي إلى أفق وطني ديمقراطي متحرر من النفوذ الإيراني، ويمهد للتحرر من جميع أشكال الهيمنة الأخرى. صحيح أن هذا التيار الجديد ما يزال ضعيفاً، ويتم قمعه بصورة إجرامية من قبل الميليشيات التابعة لإيران، بخاصة في العراق، وبدرجة أقل في لبنان، حيث يحاول الجيش اللبناني إمساك العصا من المنتصف حفاظاً على ما تبقى من سيادة، إلا أنه تيار واعد يتماشى مع مصلحة شعوب بلدان شرق البحر المتوسط ورغبة معظم القوى الدولية.
ولتجاوز مفاعيل انفجار بيروت، تتكاتف الجهود الدولية، وعلى رأسها الجهد الفرنسي، لمساعدة لبنان والحيلولة دون انهياره، كحل مؤقت، ويبدو أن معالجة السبب الأساس، وهو سيطرة ميليشيا حزب الله على مقدرات وسيادة لبنان، لم يحن أوانه بعد، بينما تستمر وتتعزز العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران للحد من دعمها لأذرعها الميليشياوية المنتشرة في المنطقة العربية، بما فيها حزب الله.
قد يكون الحل الممكن في هذه الآونة هو إجراء إصلاحات سياسية جدية في لبنان بإشراف دولي، وهذا ما دعت إليه فرنسا، إلى جانب استمرار رئيس الوزراء العراقي الحالي بجهوده المدعومة أميركياً لاستعادة السيادة العراقية من إيران وميليشياتها. يترافق ذلك مع خطوات جدية للتخلص من التغلغل السرطاني الإيراني في الدول الثلاث، ودحر فلول الإرهاب الذي وجد له موطئ قدم بسبب الفشل السياسي بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وبقاء الاستبداد في سورية بقوة حلفائه الروس والإيرانيين وبتأييد مضمر من دول الغرب لعدم عدم تبلور، أو عدم السماح بتبلور، بدائل سياسية ملائمة حتى الآن.
كما أن أحد المخارج الممكنة لمنطقة شرق المتوسط هو الوصاية الدولية الغربية المباشرة ولفترة كافية من أجل حمايتها من التدخلات الإقليمية، ريثما يتم تجاوز هذه المرحلة الخطرة، سواء كانت بقرار أممي، أو بدونه إن تعذر ذلك بسبب فيتو روسي/صيني؛ لأن استمرار النفوذ الإقليمي سيكون عامل تفتيت جغرافي واجتماعي يكرس حالة الاستنقاع الحالية.
في كل الأحوال، لم تعد ثمة حلول ممكنة وناجعة في بلد واحد من بلدان شرق البحر المتوسط المشار إليها أعلاه، وأي تقدم على أحد المسارات سينجم عنه تسريع في المسارين الآخرين. وتبقى سورية حلقة مهمة في المشروع الإيراني لشرق البحر المتوسط، ولن تكون بمنأى عما يحدث في الساحتين العراقية واللبنانية، وسيؤدي كل تقدم دولي في مساعدة لبنان والعراق إلى التمهيد للحد من النفوذ الإيراني في سورية والتحضير لحل سياسي ما يحافظ على الجغرافيا الحالية لبلدان شرق البحر المتوسط ويمنع تمزقها وتحولها إلى دول فاشلة ومحميات دولية وإقليمية، ويمهد للتعاون الإقليمي لصالح شعوب المنطقة.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”