
منظمات المجتمع المدني: غياب عن المشاركة في صنع المستقبل
في الوقت الذي تشتد فيه الحاجة إلى إعادة بناء المجتمعات الخارجة من النزاعات، يغيب أحد أهم الفاعلين المفترضين في هذا المسار: منظمات المجتمع المدني، رغم امتلاكها أدوات فعالة يمكن أن تساهم في صياغة مستقبل أكثر عدالة واستقراراً.
عندما نتحدث عن منظمات المجتمع المدني، فإننا لا نتحدث عن مؤسسات ثانوية أو كيانات هامشية، بل عن شرايين حيوية تنبض داخل الجسد المجتمعي، وتشكّل امتداداً لوعي الأفراد وتنظيمهم الذاتي. هذه المنظمات تمثّل المبادرات الحرة، وتعبّر عن احتياجات فئات واسعة من الناس، وتمنحهم أدوات للتعبير والعمل والمطالبة بحقوقهم. وهي في الوقت ذاته مساحة للتعاون، والحوار، والعمل التطوعي، وتُعد ركيزة أساسية لأي عملية تحول ديمقراطي أو نهوض مجتمعي حقيقي.
لكن الواقع القائم يُظهر أن هذه المنظمات في كثير من المناطق تعاني من تهميش، أو تضييق قانوني، أو اتهامات بالتبعية. وفي بعض السياقات، تُربط تلقائياً بأجندات خارجية، وكأن دورها الطبيعي في خدمة المجتمع أمر مشكوك فيه. ما نحتاج إليه اليوم ليس فقط الاعتراف بأهمية هذه المنظمات، بل توفير بيئة قانونية مرنة وشفافة تتيح لها العمل بحرية ومسؤولية. فالقوانين المتشددة، التي تقيّد التأسيس، وتضيق التمويل، وتفرض رقابة مشددة، لا تساهم إلا في تعطيل الطاقات الخلاقة، وإفراغ العمل المدني من مضمونه.
القانون المنشود هو قانون يدرك الفرق بين التنظيم والتقييد، بين الرقابة والمتابعة، بين حماية الصالح العام وخنق المبادرات. وهو قانون يضع في اعتباره أن العمل المدني لا يجب أن يكون ساحة للصراع السياسي أو مطيّة لتصفية الحسابات، بل فضاءً مستقلاً يعمل من أجل الناس ومعهم، بصرف النظر عن مواقفهم السياسية أو انتماءاتهم الفكرية.
ومن هنا، فإن دور منظمات المجتمع المدني لا يقتصر على سد فراغ الخدمات الذي تتركه الدولة، بل يمتد ليشمل المساهمة في تشكيل الوعي الجمعي، وبناء ثقافة الحقوق، وتحفيز المشاركة العامة. إنها تسهم في إطلاق مشاريع تنموية تستهدف النساء، والشباب، والأطفال، وتعمل على معالجة قضايا العنف، والتمييز، والتهميش، والتعليم، والصحة النفسية، والبيئة. وهي، بذلك، تعبّر عن العمق الاجتماعي لأي عملية إصلاح.
في مجتمعات أنهكتها الحرب، يصبح التمسك بالسياسات المركزية، أو الاقتصار على الحلول الحكومية، خطراً يُعيد إنتاج الأزمات ذاتها. الحل يبدأ من القاعدة، من الناس، ومن المبادرات التي تنبع من احتياجاتهم. وهنا يأتي دور المنظمات المدنية التي تمتلك الخبرة الميدانية، وتعرف تفاصيل المدن والأحياء، وتبني علاقات ثقة مع السكان. ومن خلال هذه الخبرات، يمكنها أن تكون ذراعاً تنفيذياً فاعلاً في أي مشروع تنموي حقيقي.
غياب هذه المنظمات عن المشاركة في صنع المستقبل يعني بالضرورة استمرار الفجوة بين السلطة والمجتمع، وبين الحاجات الواقعية والسياسات المُقررة. كما يترك فراغاً يُملأ غالباً بقوى لا تحمل مشروعاً وطنياً، بل أجندات تكرّس الانقسام أو تغذي العنف.
ختاماً، إن المجتمعات لا تنهض فقط بالإعمار المادي، ولا بالتفاهمات السياسية وحدها، بل بالنهوض بالمجال المدني، وإعادة بناء الثقة بين الناس ومؤسساتهم، وبين الأفراد وبعضهم البعض. ومنظمات المجتمع المدني، إن أُعطيت المساحة والدعم والاستقلالية، تستطيع أن تكون رافعة أساسية لمستقبلٍ أكثر عدلاً وشراكة واستقراراً.