
حياة بلا مأوى: نساء سوريا بين الغربة والدمار
“أين أذهب بأطفالي؟ عدتُ إلى سوريا فوجدتُ منزلي ركاماً. لم يبقَ لي شيء، لا بيت، ولا معيل، ولا حتى فرصة للحياة.” بهذه الكلمات المثقلة باليأس تصف فاطمة، وهي أم لثلاثة أطفال، معاناتها بعد أن قررت العودة إلى سوريا، لتجد أن الوطن الذي تركته لم يعد كما كان، بل تحول إلى أطلال. فزوجها اختفى في الحرب، وعائلتها تفرقت في الشتات، ولم يعد أمامها سوى خيارين كلاهما قاسٍ: البقاء في دول اللجوء تحت تهديدات الترحيل، أو العودة إلى وطن تحاصره المجاعة والتشرد بعد سنوات من الدمار.
سوريا اليوم ليست كما كانت قبل أربعة عشر عاماً، إذ لم يبقَ سوى الخراب. وفقاً لدراسة صادرة عن معهد التدريب والبحث التابع للأمم المتحدة، تعرضت ست عشرة مدينة رئيسية لدمار واسع، وسُوِّيت أحياء بأكملها بالأرض، المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف، في ديسمبر 2021، قدّر تكلفة إعادة الإعمار بنحو 800 مليار دولار، في حين تتراوح تكلفة إعادة بناء الوحدات السكنية وحدها بين 100 و150 مليار دولار.
ولم تقتصر الخسائر على العمران، وفقاً لتقارير دولية ومحلية فقد بلغت الأضرار الاقتصادية الناتجة عن الحرب نحو 600 مليار دولار، وأسفرت عن تدمير ما يقرب من مليوني وحدة سكنية بالكامل أو جزئياً. وفي ظل هذه الأرقام الهائلة، تبدو عودة اللاجئين أشبه بحلم مستحيل، إذ كيف يمكن لأي شخص أن يعود إلى وطنه دون أن يكون لديه سقف يحميه؟
لكن المشكلة لا تقتصر على فقدان المنازل، فالمرأة السورية، التي وجدت نفسها وحيدة بعد فقدان الزوج أو الأب أو الأخ، تحمّلت مسؤولية إعالة أسرتها في الغربة، مجبرةً على أعمال شاقة بأجور زهيدة. وفقاً لتقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فإن 30% من الأسر السورية النازحة تعيلها نساء، كثيرات منهن اضطررن للعمل في ظروف قاسية فقط لتأمين الحد الأدنى من المعيشة. ومع ذلك، إذ جعل الغلاء في دول اللجوء العيش تحدياً يومياً، في وقت يواجه فيه اللاجئون تهديدات مستمرة بالترحيل، مما جعل هؤلاء النساء عالقات بين خيارين كلاهما مر.
تروي أم سعيد، لاجئة سورية من دير الزور، تفاصيل تجربتها: “كنت أفكر في العودة إلى دير الزور، فمهما كانت الحياة في الغربة صعبة، يبقى الوطن هو الملجأ الأخير. خططت لترميم منزلنا والعيش فيه، لكن أحد جيراني أخبرني بحقيقة صادمة “حتى لو رممتي البيت، فكيف ستعيشين في منطقة بلا ماء ولا كهرباء، وسط دمار يعم كل شيء؟” زوجي فقد ساقيه في القصف، ومنذ تلك اللحظة أصبحت مسؤولة عن تلبية احتياجات عائلتي. أعمل لساعات طويلة وأدير شؤون المنزل، بينما يساعدني ابنيَّ بمبالغ ضئيلة لا تكفي لتغطية إيجار البيت والفواتير.”
تأتي شهادة أم سعيد لتسلط الضوء على المشكلة الأساسية التي تواجهها النساء السوريات في الشتات فالعودة إلى سوريا لم تعد خياراً عملياً بالنسبة للكثيرات، بل هي محاولة للنجاة من ظروف قد تكون أكثر قسوة من الغربة نفسها. لكن واقع الدمار لا يرحم، مما يترك النساء عالقات في دائرة لا يمكن الخروج منها بسهولة.
وفي تقرير صادر عن البنك الدولي العام الماضي، قُدِّرت الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والقطاعات الاجتماعية والبيئية والمؤسسات العامة، حتى يناير 2022، بما يتراوح بين 8.7 و11.4 مليار دولار. ومن إجمالي هذه التقديرات، شكلت الأضرار التي لحقت بقطاعات البنية التحتية 68%، أي ما يتراوح بين 5.8 و7.8 مليارات دولار. أما المدن الأكثر تضرراً، فشملت حلب ودمشق وحمص ودير الزور، التي طال فيها الدمار الأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس ومحطات توليد الكهرباء وشبكات المياه والصرف الصحي. ووفقاً لأحدث دراسة صادرة عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat عام 2022، فإن تكلفة إعادة إعمار سوريا تُقدّر بمئات المليارات من الدولارات، لا سيما مع الخسائر الفادحة في البنية التحتية، وتشير التقارير إلى أن أكثر من نصف السكان فقدوا منازلهم، مما يجعل أزمة السكن واحدة من أعقد التحديات التي تواجه البلاد في مسار التعافي.
أما بالنسبة لأم خالد، لاجئة سورية في تركيا، فتضيف: “كنت أعمل 12 ساعة يومياً في مصنع نسيج، بالكاد أوفر إيجار البيت والطعام لأولادي. كنت أنتظر اللحظة التي أعود فيها إلى بلدي، لكن اليوم أدركت أن العودة تعني الموت جوعاً”. تحكي أم خالد عن حالتها النفسية والاقتصادية التي تتشابك فيها الحاجة للعمل مع الأمل المفقود بالعودة. وتضيف “حتى لو عدنا، لن نجد منزلاً، ولن نستطيع دفع الإيجار في بلد بات فيه متوسط الرواتب عاجزاً عن تغطية أبسط الاحتياجات”.
في تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP))، فإن 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وتواجه النساء بشكل خاص ظروفاً أكثر قسوة بسبب غياب أي دعم اجتماعي أو اقتصادي.
ومع هذا الخراب، تبدو العودة بلا معنى، إذ لا يكفي وجود المنازل دون اقتصاد مستقر يضمن العيش بكرامة. أمام هذا الواقع، لا تجد النساء اللاجئات سوى مواجهة مصيرهن وحدهن، فبين العودة إلى حياة بلا أمان، والبقاء في دول اللجوء مع تهديدات الترحيل، لم تعد هناك خيارات متاحة سوى انتظار المجهول.
ما الحل إذن؟ هل يبقى السوريون في المنفى الأبدي، أم أن هناك أملاً في إعادة بناء وطن يستوعب أبناءه؟ حتى الآن، تبدو الإجابة بعيدة المنال، لكن المؤكد أن النساء السوريات هن الأكثر تضرراً، يواجهن كل يوم قرارات مصيرية، وليس لهن خيار سوى الصمود في وجه واقع لا يبدو أنه سينتهي قريباً.