
الاقتصادي الشهير رئيس هيئة مكافحة البطالة الدكتور حسين عمّاش لـ “نينار برس”: الثورة قامت لإقامة دولة مستقرة السلطة فيها للشعب وحده من خلال البرلمان والانتخاب
حين تُطرح أسئلة كبرى تخصّ الوطن السوري على شخصية شغلت من قبل مهاماً ومناصب تتعلق بالشأن العام السوري، يجب أن تكون هذه الأسئلة شاملة وعميقة، كي تضيء حركة الواقع الراهن وآفاق صيرورتها.
نينار برس تجشّمت عناء البحث عن أجوبة ملموسة بدون زركشات حول حاضر سورية في ظلّ قيادة سياسية مؤقتة استطاعت إسقاط نظام الأسد، فذهبت إلى المخضرم الاقتصادي الوطني الدكتور حسين عمّاش، وطرحت عليه أسئلتها التالية، فكان هذا الحوار.
السؤال الأول
انعقد في الأسبوع الأخير من شهر شباط الماضي مؤتمر حوار دعت إليه حكومة تصريف الأعمال في دمشق. وقد غاب عن المؤتمر صلاحيات اتخاذه قرارات ملزمة، لإن الحاضرين كانوا مدعويين بصورة فردية لا تمثّل الطيف السياسي السوري العام.
هل تعتقدون أن سورية لا تزال تحتاج مؤتمر حوار شامل وفاعل بين مكوناتها السياسية وبين القيادة السياسية القائمة في دمشق حالياً؟
هل يمكنكم إضاءة المهام التي ينبغي على مؤتمر حوار وطني شامل مناقشتها حسب أولوياتها واتخاذ قرارات تنفيذية تلتزم بها القيادة السياسية الحالية؟
هل تعتقدون أن القيادة بصورتها التي تقوم بتكريسها عن نفسها مستعدة لتحقيق انتقال سياسي حقيقي، أم أنها ترسم هذا الانتقال على مقاسها الايديولوجي السياسي؟
بحاجة لبناء دولة أكثر من الترف الحواري
يجيب الدكتور عمّاش حسين رئيس هيئة مكافحة البطالة ورئيس جامعة الجزيرة سابقاً على سؤالنا الأول فيقول:
مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد يوم 25 شباط 2025 لم يكن مفيداً لا سياسياً ولا فكرياً لمرحلة ما بعد سقوط الاسد، لإن قراراته استشارية وغير ملزمة للسلطة. ولإن هذا المؤتمر، بغضّ النظر عن الهالة التي أحيط بها، ليس له جذورٌ اجتماعيةٌ في ظل هذا التدهور المعيشي، والوضع الأمني الانتقالي المتوتر. البلد يحتاج إلى إجراءات تنفيذية معروفة وعميقة لبناء الدولة أكثر من هذا الترف الحواري الذي عقد فيه.
يضيف الدكتور عمّاش:
وحتى نكون صريحين أكثر، فإن فكرة المؤتمر الوطني المقترح بنحو 1200 شخصاً بدايةً، ثمّ اختزلت الى مؤتمر للحوار بنحو 600 شخصاً بيوم واحد هي دعاية سياسية غير مجدية بالمرة للسلطة الجديدة، وانتهى مفعولها الإيجابي بيوم انتهاء المؤتمر، بينما استمرت مضاعفاتها السلبية تتوالى.
وقناعتي إن مثل هذه المؤتمرات بهذا الوقت بالذات ضررها أكثر من نفعها. وربما بعد وصول البلد الى حالة شبه مستقرة أمنياً ودستورياً، عندها قد يكون الحوار إيجابياً لحلّ الاختلافات الجذرية المستعصية بين فئات المجتمع وطوائفه.
ويتابع الدكتور عماش حديثه فيقول:
والمنطق يقول إن مسالة بناء الدولة وخلق مجتمع سلمي وآمن هي الأولوية، بل القطار الذي سيركب فيه كل الناس بإرادتهم. وهذا يتطلب إعلان خطوات استكمال البناء الدستوري بوضوح، لتمكين الشعب من ممارسة سلطته، وليس رعيةً تتلقى التشريعات من المستبد العادل.
القيادة السورية الحالية، للأسف، تجاهلت كل مبادئ الثورة بالانتقال السياسي إلى حالة دستورية ديمقراطية وكأنها غير معنية بذلك. وكأن فضيلتها الوحيدة هي إسقاط الأسد شخصياً فقط.
وختاماً يقول الدكتور عمّاش:
فإن المؤتمر وأغلب المؤتمرين لم يكونوا طرفاً في الثورة، أو حتى في الوعي الوطني، وإنما طرفاً لتكريس سلطة غير ديمقراطية.
السؤال الثاني
عيّن الرئيس المرحلي أحمد الشرع لجنة لإعداد وثيقة إعلان دستوري. وهناك تسريبات نشرها موقع (المدن) اللبناني عن هذه الوثيقة.
هل تعتقدون أن دولة ديمقراطية يمكنها أن تنشأ عبر إقرار أن دين رئيس الجمهورية الإسلام؟ أم أن هذه الصيغة الدستورية تنفي مفهوم المواطنة الحقيقي، حيث تحرم المواطن غير المسلم وربما المسلم غير السنّي من حقّ قيادة الدولة عبر انتخابات شفافة؟
الأصل أن يصدر الإعلان الدستوري مع أول بيان
يجيب الدكتور عمّاش على سؤالنا الثاني فيقول:
الفرصة تأتي مرة واحدة في العمر. وهذه الحكومة الحالية أضاعت الفرصة بجدارة، حتى مع صراخ كثير من المخلصين: يا سلطة الأمر الواقع أصدري الإعلان الدستوري فوراً. الآن دخلت متاهات قانونية وبدأت الترقيع بقماش غريب عن الثوب.
ويرى الدكتور عمّاش إن:
فكرة هذه اللجنة جيدة بذاتها. ولكن العبرة بما سوف يصدر عنها باسمها وعلى أكتافها. وما تسرّب عن اللجنة بيوم تشكيلها يوحي بأمر مريب جداً. وإذا كان ما تسرّب صحيح فعلاً من أو اللجنة (أو من سادة اللجنة) فإن ذلك سوف يثير مشاكل ولن يقدم حلولاً، لإنه يبدو كأنه دستور موجز، أعدته السلطة التنفيذية بليلٍ وسرّبته. وكأنه يشرّع لسلطة حاكمٍ مطلقٍ أشبه بالسلطان الإمبراطوري. وهذا طبعاً مرفوض لإن الثورة لم تقم لاستبدال حاكم مطلق علوي بآخر سني. لا. لا. وإنما لإقامة دولة مستقرة، السلطة فيها للشعب وحده من خلال البرلمان والانتخاب. والرئيس شخصٌ يُنتخب ويخدم ويأتي غيره. والوطن دائم وثابت.
والأصل إن الإعلان الدستوري يصدر مع البيان رقم واحد، ويحدّد الخطوط العامة للسلطة الجديدة. أما أن يأتي بعد ثلاثة أشهر، وبصيغة دستورٍ مصغّرٍ، كأنه يقول إن هذا الاعلان يكفي لخمس سنوات قادمة أو أكثر حتى تفكّر الحكومة بالخطوة القادمة.
ويتابع الدكتور عمّاش حديثه إجابته على سؤالنا فيقول:
أما بشأن دين رئيس الدولة، فيجب ألا تكون نقطة خلاف. لإن كل الدساتير السورية السابقة أقرّت علناً أو عرفاً إن رئيس الدولة يجب أن يكون “عربي مسلم سني” خاصةً وإن أغلبية الشعب السوري هم عرب مسلمون وسُنّة. وحالة استثناء حافظ الأسد أورثننا الخراب. وهذا منطق الدول والواقع.
والاعتراضات هنا هي نوع من فرض الوصاية ورفض مبدأ الأغلبية والديمقراطية. والأقليات السورية معترضة دوماً وتطالب بفيتو بغير وجه حق. وللعلم. لا يجرؤ مغترب مسلم واحد في كل دول الغرب الديمقراطية ولو عاش فيها لمدة 100 عام أن يفكّر مجرد تفكير بالترشح لمنصب الرئاسة هناك. فهو منصب معلن محصور بمذهب الأكثرية.
ووجهة نظري إن هذا المنصب يجب أن يبقى خارج النقاش تماماً، لان الرئيس الديمقراطي حتى ولو كان سنيّا فظّاً فهو محكوم بسلطة الشعب والبرلمان والدستور والقوانين. وهذه لا تلغي المواطنة ولا غيرها.
السؤال الثالث
حتى الآن زارت وفود كثيرة من شركات عربية وأجنبية قصر الشعب والتقت الرئيس أحمد الشرع بغية عرض تصورات شركاتها لإعادة إعمار سورية؟
كيف تنظرون إلى هذا الزخم الاقتصادي من ناحية تلبيته لاستقرار سورية؟ هل لديكم معلومات حول خطوات سياسية وقانونية مطلوبة من حكومة الشرع تسبق إعادة الإعمار؟ هل رفع العقوبات الأمريكية والغربية كافٍ لانطلاقة اقتصادية جديدة في سورية، أم هناك خطوات تجدونها ضرورية ومتزامنة لتحقيق ذلك؟
البلد يعمّه الخراب والمستثمرون مستطلعون
في إجابته على سؤالنا الثالث يقول الدكتور عمّاش حسين رئيس جامعة الجزيرة سابقاً:
بدايةً، الحكومة الحالية لم تعلن أو حتى تسريباً عن أي تصور لها لكيفية إعادة الإعمار، سوى تصريحات غير مدروسة من مسؤولين غير مختصين بأنه يجب خصخصة القطاع العام. هذه مراهقة اقتصادية بحتة.
لا نريد أن نصف هذه الوفود والزيارات القادمة بكثرة الى القصر الجمهوري بشيء من السخرية، لإن أغلبهم كانوا وفوداً استخبارية استطلاعية، ليروا إن كان لهم فرصة نفوذ سياسي في البلد. فهم يعرفون إن سورية بلدٌ يعمّه الخراب والفقر حتى المجاعة. فلا وجود لعائد استثماري فعلي الآن لأي مستثمر حقيقي في سورية، إلا النصّابين. أما الدول فقد تساعد على أسس إنسانية أو ودّية. وهذا هو المنطق.
كلمة إعادة الإعمار كلمة مضللة، تستغل حاجة البلد والناس. أي سرقتهم بصورة قانونية.
لهذا السبب كنّا في المعارضة، ولا زلنا نقول بأن تكون إعادة الإعمار تبدأ بإعادة اللاجئين، لإنهم ثروة البلد وهم الضحايا. أما بقايا بنود الإعمار فسوف تأتي لاحقاً عند استقرار البلد.
ولهذا نقترح إعادة الإعمار على مرحلتين لسهولة التطبيق. المرحلة الأولى مهمة وحاسمة ولكنها بسيطة تتمثل بإعادة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم ومساعدتهم لإعادة بناء سكنهم إلى الحالة السابقة بدون أي تغيير عمراني أو سكّاني في المدن والاحياء، مع إصلاح البنية الأساسية فيها الى الحد الأدنى السابق فقط. وطبعاً سوف يسبق هذا إعلان خطة إدارية وتنفيذية ومالية لكيفية مساعدة هؤلاء العائدين.
أما المرحلة الثانية من الإعمار، يفترض أن تتم بعد استقرار البلد دستورياً وسياسياً بحيث يتم وضع تصور مستقبلي يقرّه البرلمان وليس مجموعة خبراء ومستثمرين، حتى يحدّد شكل ومضمون مستقبل البلد.
ويضيف الدكتور عمّاش:
ورفع العقوبات حتماً سيُسهم في الإسراع بوتيرة الإعمار. ولكن رفع العقوبات يبدو إنه مرتبط بجهد الحكومة الفعلي على أرض الواقع داخل سورية، وليس بناءً على اللقاءات الدبلوماسية، من حيث إشراك الشعب بالسلطة الفعلية، وعدم استبعاد أي جماعات. والأهم من ذلك هو كيفية وضع تصور واقعي اقتصادياً واجتماعياً لجهد إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي. وهذا ربما أهم مكون مؤثر عالمياً وداخلياً.
السؤال الرابع
سؤال صريح دكتور حسين:
هل ما يجري من سيطرة على أجهزة الدولة ومفاصلها هو خطوة باتجاه تلوين الدولة بلون إيديولوجي/ سياسي معيّن؟ هل تعتقد أن الغرب يريد حكم سلطة شمولية على حساب دولة ديمقراطية؟
المسكوت عنه مطلوب سوريّاً
يقول الدكتور عمّاش في إجابته على سؤالنا:
هذا سؤال مهم جداً. وهو يبدو من نوع “المسكوت عنه” ولكنه غير مقبول سورياً قولاً واحداً أن تستأثر جماعةٌ من لونٍ فكريٍ واحدٍ على الدولة والسلطة.
إنه خطا فادح يرتكب بدون رؤية.
الحاضنة الثورية حائرة ويتمّ تجاوزها
يجيب الدكتور على سؤالنا الصريح بصراحة أكثر فيقول:
أنا شخصياً من حاضنة الثورة الواسعة التي تعتبر نفسها الشعب الثائر كله، تجد نفسها مستبعدة، واقفة بحيرةٍ عما يعمله أخواننا في السلطة الحالية. بل اعتبره تجاوزاً لحقّ الثوّار ومدخلاً لتوترات عميقة قادمة ستهزّ المجتمع كله. لا أحد ينكر حقهم في المشاركة في السلطة، ولكن ليس استفرادهم. فالشعب الثائر. ضحّى كثيراً على مدى 14 عاماً. ولا يجوز أن يُحرم من حقه في المشاركة على الاقل.
ولا يجوز أن تقع الحكومة في فخّ بريق السلطة، وتكرّر أخطاء البعث السلطوية. ثّم أخطاء الأسد الطائفية. والتاريخ مليء بالعبر.
السؤال الخامس
في بناء دولة المواطنة هناك ضرورة لوجود عقد اجتماعي بين المكونات الوطنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هل تعتقد أن هكذا عقد يمكن التوافق عليه؟ أم أن هيمنة الأيديولوجي السياسي الواحد هو ما سيحدث؟ هل أبواب صراع سياسي ستفتح في سورية إذا ما تمّ تغليب اللون الواحد على بنية الدولة والسلطة؟
المطلوب عقد اجتماعي لدولة ديمقراطية
يقول الدكتور عمّاش في إجابته على سؤالنا الخامس:
أيضاً سؤال مهم.. وسوف أحاول الإجابة من منطلق رؤيتي لدولة الحرية والحق والكرامة والديمقراطية لسورية الجديدة. العقد الاجتماعي للوطن والمواطنين كلهم، وليس بين فئات ذات صوت عال أو جماعات منظّمة جيداً.
وأفضل طريقة لوضع هذا المصطلح “العقد الاجتماعي” قيد التطبيق هو إقامة دولة ديمقراطية تنتخب ممثليها الى البرلمان، ليضع الدستور الذي هو بمضمونه عقد اجتماعي عام. وكلما كان الدستور شاملاً ومرناً ورحيماً فإن مضمون العقد الاجتماعي سيكون واضحاً وثابتاً ومقبولاً من كل الناس على الأسس الديمقراطية.
وبدون انتخابات حرة ونزيهة فإن أي عقد يكتب هو نوع من التوازن القلق بين الأطراف المتعاقدة.