fbpx

قراءة في قصة قصيرة

0 576

القصة بعنوان “امتلاك” للكاتب السوري: أسامة آغي

القراءة النقدية: لطيفة زجاري

وانبسطت كفاه على جذع المدينة، أغلق عينيها وتهاطل نسيجاً من قتامة لا تُدرك، وفي حضنه ارتعشت غيوم سوداء أسقطت زغبها مدّاً من بللٍ ممتع، في وقت كنا نتنفس بتوجس، أقدامنا تمتصّ بقايا الزمن الفاصل بيننا وبين الجدار الأخير، فخلفه تنتظرنا تركة ثمينة.

همست جمانة: هل ستمرّ العملية بسلام؟.

– أتوقع ذلك

– ونصبح ثريين؟

– ربما!

وتمتمت لنفسها: ماذا تعني هذه الـ ربما؟ ألن يكون بمقدورنا التخلص من عجزنا الدائم؟. لا فأنا أظن أن الليلة بدقائقها المتبقية، ستنقلنا إلى عوالم أخرى.

ونسمت هبة فرحٍ في بدنها، سأنتصر على انكساري القديم، سأدوسه بقدميّ، أمرّغ جبهته بالتراب.

والانكسار شاب يدعى سعيد، يخرج من حوض العتمة، يندس في مدخل الدار، ثم يبدأ بالسؤال: ها نام الجميع يا جمانة؟

– بلى

– وهل كرزك البردان متلهف لحرارتي؟

– ….

– أوه، دائماً خجولة يا قطتي.

وتجد جمانة جسدها موزعاً بين أصابعه وشفتيه، لهاث جمري يحرق مراكب الحلم النائم في يمّ قلبها، اللهاث دعوة للانصهار في نار نائية، لكنّ قمراً من بنفسجٍ تطوّحه زلزلة مجهولة، يقودها من معصمها، ويرميها في فم رماد بارد.

وتعلن جمانة لقلبها: سننفي الرماد، نقتلع أظافره معاً، فالذي يفصلنا عن كوخ السعادة مجرد خطوات.

وتهمس لمازن:

– ألست بردان؟ فالمطر أغرق ثيابي

– لعله برد الخوف ما تشعرين!

– لا، فليس للخوف مكان ما دمنا مع بعضنا.

– إذاً، لنتابع طريقنا بهدوء.

نعم بهدوء، أعادها على مسمع دمه، يجب أن ينتهي كل شيء بدون أي أثر، فالعجالة تترك دليلاً، وهذا ما لا يجب أن يقع، ولكن أتراني أجد التركة الرائعة؟ ليتها موجودة في الصندوق.

وفرك مازن يديه، ومضى يحدّث نفسه: هذه التركة ستجعلك رجلاً ذا وزن يا مازن، فلن تحتاج إلى مساعدة ذويك بعد اليوم.

ونهض وجه أبيه في ساحة رؤيته، هزّ الوجه طيفاً معلّقاً في الذاكرة.

– اسمع يا مازن، الجار قبل الدار، ولن أتسامح مع عبث كهذا

– لكننا نُحبّ بعضنا وسنتزوج ذات يوم.

وتقاذفته الصفعات، تأرجحت الدنيا في رأسه.

سأتخلص الليلة من عبوديته، وتصبح جمانة زوجاً لي. واختلس النظرات إلى صفحة وجهها الحنطي، سوف نتمتع بكلّ ثانية تمرّ، وسوف تحبل جمانة وتنجب أطفالاً من طبع الضوء، بل وسأنحني كل عام لذكرى جدتي، التي تركت وراءها ثروة معقولة، فهي لا بدّ أن تسامحني على ما سأفعله بعد قليل، فأنا أحق بتركتها من أولادها المتخمين.

كان وجه الجدة الأبيض يعوم في ماء مقلتيه باسماً، راضياً، إنها تتكلم والابتسام يعرّش على محياها:

– أنت ولدٌ طماعٌ وملعونٌ يا مازن

– طمّاع يا جدتي لأنني طلبت عشر ليرات!

– عشر ليرات! وماذا ستفعل بها؟

– سأشتري كتاباً جديداً

– ولكن المبلغ كبير!

– إذاً، لن آخذ شيئاً البتة، بل ولن أزورك بعد الآن. وأتظاهر بالحرد.

– مازن، تعال يا صغيري، خذ

وتناولني القطعتين الورقيتين، وأدسهما في جيبي بسرعة.

انتبه. لن أمنحك مثلها قبل مرور شهر

ولكن جدتي الآن في القبر، ربما حزينة، من يدري! ماذا يحدث لها، ستزورها الملائكة بدون شك، يتقدم نحوها اثنان منهم، يطرحان عليها الأسئلة التالية:

– هيا أخبرينا، ما الذي فعلته بدنياك؟

– لم أفعل شيئاً لا يُرضي الله، لقد أديت فروضي كلها، صلّيت وصمت ودفعت زكاة عن أموالي، وصنت حرمة زوجي.

ويقاطعها أحد الملاكين:

– وماذا فعلت من أجل حفيدك مازن

– كنت أحبه، وأعطيه مصروفه

– وهل كان المصروف كافياً؟

ستحكّ جدتي رأسها، تحاول أن تتذكر المقدار الذي كانت تقدمه لي، وحين تعجز عن الإجابة، تبدأ بالبكاء والتوسل، وتقول: ألا يكفي أنني كنت امرأة طاهرة وكريمة؟.

ويبتسم مازن للأفكار التي تدور في رأسه، تطوف عيناه على ملامح الجدة، فيتذكّر محيّاها الأبيض الهادئ، عينيها السابحتين دوماً في حقل شموس، ثم يهمس لأعماقه: كانت جدةً عظيمةً، لفقد فعلت خيراً بموتها، حيث تركت ثروتها الطيبة، إنها لا تدري أن ما تركته سيوصلني إلى حقول جمانة الدافئة.

واختلس مازن النظر إلى جمانة، التي تحاذيه بصمت، والتي تعوم في مناخ أفكارها المتداخلة، حيث تهمس لذاتها: افرحي يا جمانة، فالقادم من الأيام جميل، لن يبرد جسدك بعد اليوم أبداً.

وتتخيّل غمامةً دافئة، تلتهم كيانها المتوثب لالتقاط شمس بعيدة. ثم تهمس لنفسها: سأسعد هذا الـ مازن الطيب، إنه يعشقني، وترى إليه خارجاً من بين أعشاب الظلمة، مليئاً بفرحتين تنزّان شفاهاً من فجرٍ لجيني الجبين. 

– أعبدك يا جمانة وا..

– أهذا كلّ شيء لديك؟

– لا، ولكنها الكلمات، تتملص من لساني

وتزرع حدقتيها المتفرستين في المدى النابض نوراً، والمتفتح توّاً في كل خلايا وجهه، وتتمتم لذاتها: يا للولد الطيب كل ما فيه يرتعش حبّاً.

وكأن يداً ترفعها إلى الأعلى، تقذفها في حضن ريح، فتسيل الحروف إلى الدم لهيباً عذباً، يقول اللهيب لجمانة: ترتجف ضلوع الجبال، تمتشق السواقي دموعها، ترشها على شعر مركب، يمخر كهوف نجمٍ تأسره ليالٍ مدلجات. تقول جمانة للهيب: لست أصلُ.

يقول اللهيب ثانية: ترابك لا تدفئه إلا البراكين.

وتصيخ جمانة السمع، حركة ما في صحن الدار. ثم تهمس بخوف: مازن أسرع لعله أبي. ويفاجئها أبوها، تطأطئ هامتها: 

– ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت المتأخر؟

– لا شيء، كنت أتفقد صنبور البرميل، ظننت أنني لم..

– هيا اذهبي للنوم، والصباح رباح.

ويردد مصطفى مع نفسه: تكذب عليّ، تقول صنبور البرميل، تخالني أبله، لا يا مصطفى، يجب أن تعاين الأمر جيداً، فأولادك ما عادوا أطفالاً، فجمانة صبية لها نهدا امرأة ناضجة، أيعقل أن تكون جمانة..؟. استغفر الله يا رجل، فابنتك لا تملك من العمر إلا ثمانية عشر عاماً، أعوذ بالله من هذه الليلة، ومن هذا الوسواس.

يقترب مازن وجمانة من السور، يتفحصان الشارع بدقة، كان الظلام فماً شهق كل مرئي، بينما كان المطر يمرّغ وجهه وأصابعه على جدران المنازل وأسطحها.

 ويهمس مازن:

– جمانة لقد وصلنا، اقتربي، ما بك ترتجفين؟

– إنه البرد والبلل، فثيابي اكتنزت ماءً كثيراً

– سنشعر بالدفء داخل البيت، هيا اقتربي، سأرفعك أولاً.

وجثا على الأرض، امتطت جمانة كتفيه، دفء وفير سكب قناديله على الجلد، أرعش غابات نائمةً منذ دهر عتيق. تردد صوت في أعماق مازن: يا رب كم هي دافئة!

وصرخ عليه صوت نابت في الرأس: ارفعها بسرعة، انهض بها، فالوقت ليس للتلذذ.

وقفزا بحذر إلى فناء الدار، كان الليل يمضغ بأسنانه الفحمية الأشياء كلها، وفي أعماق الجسدين طارت وطاويط فزعة.

دخلا الحجرة المقصودة، أضاء مازن شمعة، كان حملها في جيبه، اندلق الضوء الفاتر على الحيطان، وعلى موجودات المكان، كثرت الوطاويط، ومضت ترفّ أجنحتها بجنون، من الرفيف هلّت مواكب فرسان ملثمي الوجوه، بأيديهم رماح مشرعة، إنهم يقتربون، بينما مازن يتفحص الغرفة جيداً، إنه يشاهد صورة جده.

– جمانة، انظري، إنها صورة جدي، ألا يبدو جليلاً؟

– إنه يشبهك، بل أنت من يشبهه، لكما نفس العينين والأنف والجبين.

– أعتقد أنه كان رجلاً عظيماً، فجدتي كانت لا تتحدث إلا عنه.

– أكانت تعشقه؟

– لا أعلم، ربما كانت تحترمه، وتخاف منه، ولكن هيا بنا إلى الصندوق، يجب أن نفتحه بسرعة.

وبعد معالجة قليلة، كان الصندوق ينفتح أمامهما عن حوائج متنوعة وكثيرة، وبدأت أيديهما تُلقي المتاع أرضاً، فتتناثر الأثواب والأمشاط وأشياء أخرى.

– مازن، انظر، إنها كتب عتيقة، أوراقها مصفرّة

– إنها لجدي وجدتي، كانا يقرآن فيها.

وبان الصندوق الصغير أخيراً، ابتعد الفرسان ذوو الرماح المشرعة، وأحس مازن أن الدنيا تكتسي بهجةً، فرفع باصرتيه إلى جمانة، كان خداها يعجّان بالأحمر المغموس بالفرح الضاحك، وتعانقا، ولأول مرة تكتشف شفتا مازن السماء اللذيذة لشفتي جمانة، وتفيض نارٌ في أنحائه.

ودون أن يعرفا، كيف أو لماذا حدث الأمر، افترشا الأرض، وجمانة ظنّت أنها تتمدد على عشبٍ وفير، إنها عارية، وتستحمّ بالصهيل المتأجج لخيول مازن الجامحة.

– منذ اللحظة ستصيرين امرأتي

واندغما في موجٍ متلاحق آتٍ من لججٍ، كانت قبل حين غافيةً، الموج يصفع الوجنات والجسدين الممتدين مع بعضٍ، ينمّل النهدين، ويوزع الصور، الصور تجتاح مخيلة جمانة، يجيء ليل عاري النجوم، ينسل وجهاً لرجل يدعى سعيد، يداه ترفعان الفستان، تمزقان راية صغيرة ملونة.

– لا يا سعيد، أرجوك، لا…

– لحظات، فقط لحظات

– وتحس جمانة بتمزق قمر جدولها الرقراق، القمر يبكي دماً، بينما ثيران هائجة ترفس أسفل بطنها

وتهمس جمانة لمازن:

مازن، أنا، دعني.

وتعصرها الزلزلات العاتية والقادمة من جحور عميقة، يتصدع وجهٌ في أفق الرأس، ومازن يطارد غزالته، ينادي عليها، إنها تخرج من رحم الضباب إليه، تُشعل بوطء قوائمها ترابه البارد، فترغو لحظة المطاردة على قامتها زبداً شهياً، وتؤوب طيور تفتح نوافذ فضاء رغيد إلى أعشاشها هادئة وادعة، ويرتفع مازن عن جمانة، بعد أن يضفر جسدها بالقبل، ينظر من جديد إلى صورة الجد المعلقة على الجدران، ويردد بخوف: الصورة تهتزّ، تتحرّك، وجدي، ليس معقولاً أن يخرج من إطارها.

يخاطب مازن جمانة: تطلعي إليه، إنه يرجع حيّاً، ينزلق من إطاره.

وفُتح باب الغرفة بوجهيهما، وولجت الجدة بوجه صارم قاس وهي تقول: تسرقانني؟!

– ولكنك ميتة. قال مازن، وهذا الصندوق حق لنا.

– ميتة؟! وقهقهت الجدّة، كانت القهقهة سكيناً تقطع لحم أمنهما.

وهجم مازن على الجدّة وهو يصرخ: أنت ميتة، وستبقين ميتة.

وقبل أن تطلق صرخة واحدة، كانت يداه تخنقانها، بينما اربدّ وجهه واحمرّ

خرج مازن وجمانة من دار جدته مسرعين، راكضين، وافترقا.

ولما دخل مازن دار أهله، كانت الأسرة لا تزال تحفّ بجسد الجدة المحتضرة.

القراءة النقدية

العنوان في قصة امتلاك متكون من كلمة واحدة مصدر لفعل امتلك، والامتلاك هو فعل الحصول على شيء لا يقبل المشاركة.

والامتلاك هنا هو امتلاك معنوي يتأرجح بين امتلاك مازن لثروة جدته الميتة في مخيلته، المحتضرة في الواقع، وامتلاك لجمانة الجارة الحبيبة وهو أيضاً امتلاك روحي لشخص جمانة المقترنة جسدياً بسعيد الذي يمثل لها الانكسار والبرد والرماد.

فجمانة المشتعلة ناراً حيال مازن والمبعثرة رماداً في حضن سعيد تظفر بفعل الامتلاك للثروة ولمازن في رحلة لسرقة تركة الجدة، حيث تجسد فعل الامتلاك في لحظة إيجاد الصندوق وأيضا الالتحام بمازن.

فمازن وجمانة المتمزقان بين ماض موشوم بالخضوع والإذعان لسلطة الأب بالنسبة لهما معا وقدسية الجار وأيضا الامتثال لقرارات الأهل حيث ارتبطت جمانة بسعيد بدل مازن وأصبحت مفعولاً به في فعل لم تحظ فيه بحق الاختيار.

فسؤال سعيد (هل نام الجميع يا جمانة؟) الذي كان مثبتاً غير منفي إذ يلزم الجواب عنه (نعم) لكن جمانة أجابت عنه بـ بلى والذي من المفترض أن يكون جواباً عن سؤال منفي وهو (ألم ينم الجميع ياجمانة ؟)

ربما السؤال والجواب عنه بهذه الطريقة كان متعمداً، فجمانة النافرة من سعيد لن تلتفت لصيغة سؤاله لكي تحسن الإجابة عنه، بل ستجيب بتلقائية على سؤال مندس في مخيلتها مفاده (ألم تنامي؟) ليكون الجواب (بلى لقد نمت) لكي تتخلص من ثقل سعيد على روحها ولكي يرحل عن سمائها لتغرق في نومها الهنيء.

ليزداد التنافر بصمت جمانة وفهم سعيد الخاطئ لكوامنها واعتبارها خجلاً ليكبس بثفله على فوهة استنشاقها لهواء نقي بعيداً عن دنياه.

فشعور جمانة بالبرد هو تعطش للحب الذي يرويه وجود مازن رغم الخوف والمطر.

وتداخل الأزمنة في القصة هو ضجيج الروح أو روحي كل من مازن وجمانة المتمزقين بين ما كان وما سيكون، حيث عودة الجد والجدة هي امتداد لإذعان متوارث عبر الزمن لم ينجحا في التخلص منه ولو بعد الامتلاك. وبعد إمساك مازن لرقبة جدته في محاولة للتخلص من تبعيات الماضي وأيضاً تحقيق الحلم في امتلاك الثروة وجمانة لتعود هذه الجدة حية لكن في لحظات احتضار، ليفترق كل من مازن و جمانة ولتبقى النهاية مفتوحة على احتمالات الامتلاك الكلي أو التنافر للأبد.

بالنسبة لأسلوب الكاتب أسامة آغي فقد التزم فيه الكاتب بعنصر الإبهار في صياغة الجمل والأحداث إذ جمله تتضمن حساً شعرياً ما يضفي عليها جمالاً وتميزاً انفرد بهما الكاتب في كتاباته كما أن الأحداث في تداخلها بين الماضي والحاضر واعتماد النهايات غير المتوقعة تذكرنا بأعمال أغاتا كريستي حيث تضع القارئ في حالة الدهشة والانبهار.

قصة امتلاك باختصار امتلكت أرواحنا وامتلكت مفتاح الوقوع في شباكها وحب الاستزادة من باقي كتابات الكاتب أسامة آغي.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني