الفشل السوري المستمر
الفشل السياسي السوري قديم ومتجدد، قديم لأن السوريين لم يجدوا صيغة الحكم المناسبة لبلدهم، بما في ذلك تحييده عن الصراعات الإقليمية والدولية منذ الاستقلال، ومتجدد لأن الاستبداد الذي حكم سورية، بخاصة منذ عام 1963، لم يسمح بتبلور وعي يمهد إلى حالة ديمقراطية، بل قاد إلى استنقاع سياسي واجتماعي مديد انتهى بانفجار 2011. وتم خلال ذلك سحق إرادة الفرد تحت مطرقة الحكم الشمولي، وتقهقره إلى مجرد مردّد لشعارات جوفاء، وتقزيمه إلى مستوى كائن مصفقٍ لسياسات لا تخدم سوى استمرار النظام الحاكم وتأبيده، علاوة على الإرث التاريخي المتمثل بتحكم عادات وتقاليد موروثة مكبلة للطاقات لا مطلقة لها.
وبعد أكثر من أربعة عقود تخللتها بعض الأزمات التي عصفت بالنظام المستبد وخرج منها بحالة أقوى، أهمها الصراع مع حزب “الإخوان المسلمين” وقائد سرايا الدفاع أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، حلت فترة استقرار سياسي بقوة القهر والقمع، واستطاع النظام استثمارها لتمرير عملية التوريث في عام 2000، ولكن ذلك لم يكن يعني سوى تراكم القهر، ويحتاج فقط إلى شرارة لإحداث الانفجار، وهذا ما وفرته ثورات الربيع العربي.
حملت الثورة معها حرية تعبير لم تشهد لها سورية مثيلاً في تاريخها، أشبه بصرخات مؤلمة حطمت قيوداً بدا وكأنه لا سبيل إلى مقاومتها، واجتاحت أجواء الحرية أماكن التظاهرات، ولم تلبث إشعاعاتها أن شملت أنحاء سورية بدرجة أو بأخرى. ولم يطل الوقت كثيراً حتى تعاونت قوى الاستبداد المختلفة لتفرض سيطرتها على الواقع، في محاولة لسحق براعم الحرية الوليدة، بما في ذلك هيمنة القوى الإسلامية المتطرفة على بيئات الثورة وتقييد حرية التعبير فيها.
لكن التعبير السياسي عن الثورة لم ينبثق من الحراك الثوري مباشرة، وتصدت له قوى عقائدية محافظة بطبيعتها وضيقة الأفق وغير مؤهلة للتعامل مع مثل هذه الظروف المستجدة، وبتدبير من قوى إقليمية سيطرت على توجهات الحراك من خلال التمويل والتسليح والأسلمة، وبما لا يخدم مصلحة الشعب السوري ككل، كما صار معروفاً للقاصي والداني، ونقطف ثماره المرة الآن.
ولم تلبث هذه الهيئات السياسية المعارضة، بدءاً بالمجلس الوطني وانتهاءً بهيئة التفاوض، أن ترهلت وتجمدت وتحولت إلى مجرد أدوات لخدمة مصالح الدول، وانتقلت من فشل إلى فشل، وأصبح إسدال الستار عليها مسألة وقت تحدده مصالح الدول المعنية. أضيف فشل مؤسسات المعارضة إلى الفشل المزمن لمؤسسات النظام وفسادها، وهيمنة الميليشيات والدول الحليفة على مقدرات البلاد والعباد، فصارت سورية، جميعها، ساحة مستباحة لنفوذ الدول وميليشياتها، وعنواناً للفشل على الأصعدة كافةً.
يتجلى الفشل السوري بصورة خاصة في صعوبة العمل الجماعي في إطار المؤسسة، وبالنسبة لأي مدير، فهو الزعيم الذي يجب أن يخضع لهيمنته العاملون، ويحتاج إلى مساعدين هم بمثابة مخبرين وعسس ينقلون إليه الأخبار لتساعده على التحكم بالمؤسسة، لا إدارتها ديمقراطياً من أجل تحقيق المنفعة والجدوى.
يعدّ نظام العمل هذا نسخة مصغرة عن هيكل استبدادي يضرب أطنابه في عمق الماضي، حيث الزعيم، أو تصعيده السماوي، هو المحور والملاذ. وإذا كانت معظم دول العالم قد تجاوزت هذه الحالة منذ أواخر النصف الثاني من القرن العشرين، فإن الاستبداد، الذي حكم سورية منذ ستينيات القرن الماضي، استطاع تجاوز زلزال انهيار المنظومة “الاشتراكية” عام 1989 والاتحاد السوفياتي عام 1991 وزلزال ثورات الربيع العربي عام 2011 وما زال يجثم على صدور السوريين، وقد ترك آثاراً بليغة في نفوس معارضيه، بحيث أنهم لم يتمكنوا من مقاومته في أغلب الحالات إلا بوسائله التي ورثوها عنه وكرسوها.
يمكن هنا أن نقارن بين عدم قدرة النظام على التغيير بالمطلق وانسحاب ذلك على مؤسسات المعارضة، وقد شهدنا مؤخراً تبادلاً لمنصبي رئيسي الائتلاف وهيئة التفاوض، مع استمرار غياب الشخصيات الكاريزمية الوطنية، ما يعكس درجة التكلس السياسي وانعدام القدرة على التجديد. كما تشهد مؤسسات المعارضة الإعلامية الأقل شأناً ذات الحالة من الهيمنة والفساد والمحسوبيات والعلاقات الشللية وضعف حرية التعبير، خوفاً على لقمة العيش. من جهة أخرى، كرست انتخابات ما يسمى بمجلس شعب النظام واقع إنتاج دمى تمثيلية للمصادقة الشكلية على ما يصدره الرئيس من قرارات ومراسيم مُنحت كحق حصري له. هكذا، يمكن وسم هذه المرحلة بأنها مرحلة الفشل السوري الكبير بجدارة.
مع وجود هذه اللوحة القاتمة، والتي تدعو لليأس والانسحاب من التاريخ، ثمة متغيرات جديدة وعميقة تطال المجتمع السوري، عززتها سرعة تبادل المعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتتمحور حول تجاوز الفكر المستبد الجماعي لصالح شخصنة التفكير واستقلاله، وإمكانية أن يحدث انتظام جديد عقلاني في هيئات مدنية يطوي صفحة الانفجارات الاجتماعية الأهلية. مثل هذه الحالة هي الأساس الذي يمكن البناء عليه، والحجارة التي سيتشكل منها البناء السوري القادم، شرط دخولها في عملية انتظام سياسية ومدنية، ما زالت تعيقها قوى الأمر الواقع المحلية والقوى الإقليمية والدولية المهيمنة.
إن التراكم الحالي الحاصل في مجال المعرفة لابد وأن يجد متنفساً له في أي حل سياسي قادم، ولو بصورة الديمقراطية الخام، وفيه ستتحول التغيرات الكمية إلى كيفيات تعيد تشكيل الواقع السوري على نحوٍ تدرّجي وثابت. في هذه المرحلة، سيحدث صراع مكشوف (غير مسلح) بين الأفكار والمفاهيم المتباينة في إطار هيئات المجتمع المدني القائمة على المصالح، ما قد يضع سورية على أبواب التاريخ مرة أخرى.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”