نتائج الانتخابات السورية، والصراع الروسي الإيراني
رغم أن الانتخابات البرلمانية هي شأن داخلي صرف كما هو متعارف عليه، إلا أنه وللمرة الأولى في التاريخ يرصد المراقبون تدخلاً خارجياً سافراً في الانتخابات التي شهدتها سوريا مؤخراً، والتي أفرزت جملة من النتائج ستؤثر دون شك على الوضع الداخلي سياسياً وأمنياً.
التدخلات الخارجية وتحديداً من جانب روسيا وإيران في ملف الانتخابات السورية والتي بدأت من مرحلة اختيار المرشحين، مروراً بتحديد شعارات حملاتهم الدعائية، وانتهاءً بحصولهم على عضوية البرلمان، أبرزت إلى أي مدى وصل التغلغل الأجنبي في مجمل الشأن السوري، مٌحجّماً استقلالية قرار الدولة السورية، بل ومنتزعاً من نظامها صلاحياته واختصاصاته كافةً كنظام حاكم لها.
الهيمنة الإيرانية ظهرت واضحة وبشكل جلي لا تخطئه العين من خلال التأييد المطلق الذي حظيت به بعض الشخصيات المحسوبة على النظام الإيراني، والمتعاونة معه علناً، من طبقة رجال الأعمال وكبار المستثمرين والتجار المستفيدين من الوجود الإيراني اقتصادياً وسياسياً.
إلى جانب عدد لا بأس به من قادة المليشيات الموالية للنظام، الخاضعة لإشراف الحرس الثوري الإيراني، والتي رُشحت ضمن فئة المستقلين، وهي المجموعة التي تفوقت على مرشحي الروس، حيث حظيت على موافقة النظام السوري، الذي أصبح يدعم تمدد النفوذ الإيراني في مناطقه مقابل تحجيم الدور الروسي، بعد أن تيقن من صحة ما يقال عن سياسة اللعب على الحبال كافة التي يتبناها الروس، وأنهم على أتم الاستعداد للتضحية به وبأركان نظامه حال تعارض وجوده مع مصالحهم الاستراتيجية ومكاسبهم الاقتصادية، فيما جاء ذلك الدعم على هوى إيران التي تسعى إلى زيادة حجم نفوذها الديني والاقتصادي والعسكري في العديد من المناطق السورية.
رفض الروس لتوجهات السياسة التي اتبعها الأسد خلال الانتخابات البرلمانية، ودعمه المطلق لمرشحي إيران، بدا واضحا قبل بدء التصويت بساعات قليلة، وذلك في التصريحات التي أدلت بها المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، التي ألمحت إلى شكها في جدوى تلك العملية الانتخابية، وفي توقيتها، مشيرة إلى أن تقييم بلادها لها لن يكون منطقياً قبل الوقوف على نتائجها.
ورغم ما يحمله ذلك التصريح من إيضاحات لكيفية تعاطي الجانب الروسي مع الأمر لاحقاً وفق النتائج التي ستفرزها تلك العملية، وما سيؤول إليه الوضع بعدها، إلا أن هناك من رأى في موقف موسكو نوعاً من التجاهل أو على أقل تقدير التراخي مقابل السطوة الإيرانية الواسعة، وما أفرزته من استحواذ على نتائجها التي جاءت بعدد لا يستهان به من الموالين لها داخل البرلمان.
وصف الموقف الروسي بالتجاهل أو التراخي هو في الحقيقة تفنيد جانب الصواب، فالتعاطي الروسي تجاه الانتخابات السورية لم يكن ضعفاً في موقفها، ولا رضوخاً لرغبة ساكن القصر الجمهوري في سوريا، الجالس على سدة الحكم بها، وإنما مرجعه لإدراكها التام أن ذلك البرلمان لا يتمتع بأية صلاحيات، وليس فاعلاً حقيقياً في تحديد مسار سياسات الدولة، كما يفتقر إلى القدرة على تسيير مجريات الأمور عموماً في الداخل السوري، وأن كل مهامه الحقيقية وفق نص الدستور السوري نفسه، تتمحور حول التأييد المطلق لجميع القرارات التي يصدرها الرئيس، والتصفيق لكل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال ليس إلا. إذاً فالمهم لدى موسكو السيطرة على الرئيس، وتحجيم قراراته وليس ضمان ولاء المصفقين له.
ورغم ذلك فإن روسيا واستمراراً لدورها الذي تلعبه حالياً بهدف تشويه صورة الأسد ونظامه، تمهيداً لدورها في المرحلة المقبلة من سوريا الجديدة، قامت – من خلال وسائل إعلامها – بتبني وجهات نظر بعض الشخصيات التي تم إقصاؤها من دخول البرلمان هذه المرة، خصوصاً تلك العناصر الموالية للنظام، حيث زخرت المواقع الإخبارية الروسية بتقارير عرضت من خلالها وجهات نظر هؤلاء حول سير الانتخابات وما تم فيها من تزوير، ونقلت عنهم وصفهم لها بأنها مجرد صراع على السلطة والموارد داخل الدولة، وتهديداتهم لحزب البعث وعناصره بل وللرئيس شخصياً.
وأرجعت المواقع الإخبارية الروسية غضب هؤلاء المستبعدين إلى شعورهم بتعرضهم لمؤامرة خبيثة من جانب اللجنة القضائية العليا المسؤولة عن تنظيم الانتخابات، التي اتهموها بتزوير النتائج وقبول الرشاوى، وأن الهدف من وراء ذلك هو إضعاف العناصر الوطنية لصالح أولئك الموالين لإيران.
حالة الغضب والحنق التي أبداها من تمت إزاحتهم عن البرلمان لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها نوعاً من الدفاع عن الديمقراطية في البلاد، أو تصنيفها على أنها محاولة من جانب برلمانيين سابقين لإقرار العدل والحق الغائبين عن مؤسسات الدولة، وذلك لكونها تأتي في إطار الدفاع عن المصالح الخاصة الضيقة بعيداً عن المصلحة العامة، وبحثاً عن النفوذ السياسي الذي يحظى به نواب البرلمان في دولة يعتمد تسيير الأمور بداخلها على حجم ما يتمتع به الشخص من سلطة حتى وإن كانت وهمية، وما يمتلكه من علاقات ينسجها من خلال هذه السلطة، وما يدفعه من رشاوى بأشكال ومسميات مختلفة.
إذ يدرك الموالون للنظام قبل المعارضين له حقيقة الدور الهامشي الذي يقوم به البرلمان السوري على الساحة السياسية الداخلية، واستخدامه كأحد أدوات وعناصر تجميل صورة النظام أمام العالم الخارجي، وتقديم سوريا كدولة ديمقراطية لديها برلمان يراقب ويحاسب المسؤولين في الحكومة، فنظام الأسد لم يعرف خلال تاريخه الدموي انتخابات حرة نزيهة، حيث دأب على مدى 50 عاماً مضت، هي عمر استيلائه على السلطة في سوريا، على تقديم مسرحية هزيلة مهلهلة السيناريو رديئة الإخراج، تعرض تحت رعاية الأجهزة الأمنية وقبضتها الحديدية، ويُطلق عليها خطأ مصطلح “انتخابات”، مثله في ذلك مثل معظم الأنظمة في دولنا العربية.
الجديد في المسرحية السورية لهذا العام، هو الإصرار على تقديمها والتفاخر بنتائجها رغم أن أكثر من نصف الشعب السوري أصبح إما مهجراً أو لاجئاً في دول العالم، حيث لم يسمح النظام لهؤلاء المنتمين للشعب السوري المقيمين في المناطق المحررة، أو أولئك الذين يعيشون رغماً عنهم خارج أرض الوطن بالتصويت في مسرحيته الهزلية، مثلما أتفعل الدول الديمقراطية مع المغتربين من أبنائها.
أهم النتائج التي فرزتها هذه الانتخابات، هو ظهور أعداء جدد للنظام، وأولئك الموالين له الذين تم تجاهل مصالحهم والتضحية بهم عبر استبعادهم من البرلمان، حيث أصبحوا أحد العناصر الأكثر شراسة التي تهدد النظام من الداخل بما يعرفون من أسرار، وما يمتلكون من أدلة وبراهين تدين تصرفاته وتفضح أفعاله، ناهيك عن تأجيج حدة الصراع الإيراني/الروسي، الذي من المرجح أن يزداد خلال الفترة المقبلة.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”