من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية
مع فجر يوم الأحد 8 كانون الأول من الشهر الجاري، فرّ رأس النظام الأسدي المجرم مع اقتراب الثوار من محيط دمشق، باحثًا بكل جبن عن خلاصه الفردي، تاركًا خلفه أركان عصابته العسكرية والأمنية والتشبيحية في حالة مزرية من الصدمة والارتباك الشديدين.
في تلك اللحظة التاريخية، انبلج فجر الحرية على سوريا وشعبها العظيم بعد خمسة عقود ونيّف من اغتصاب السلطة، وتحويل الوطن إلى سجن كبير، وإشاعة ثقافة الخوف والاستبداد والفساد المنهجي، ما أدى إلى تدمير حواضر البلاد، وقتل وتهجير الملايين من أبناء شعبنا، وجلب قوى احتلال متعددة كادت أن تجعل سوريا قاب قوسين أو أدنى من التقسيم والضياع.
واليوم، لقد أسقط شعبنا العظيم هذا النظام الإرهابي المجرم، وصنع فجر الاستقلال الثاني بعزيمته وتضحيات أبنائه الأبطال. وقد صُدم العالم بهول الجرائم التي ارتكبتها هذه العصابة، خصوصًا بعد اقتحام السجون المرعبة، وما نقلته شاشات التلفزة من فظائع شكلت صدمة لدى كل المتابعين حول العالم.
اليوم، انتقل السوريون من الشرعية الثورية إلى مرحلة انتقالية، تؤسس للشرعية الدستورية، من أجل طيّ صفحة الاستبداد والطغاة والهمجية، ومنع إعادة إنتاجها، والعبور إلى الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة.
إن تحقيق هذه الأهداف الملحة سيتم من خلال مرحلة انتقالية يحدد ملامحها ممثلو المكوّنات السورية والقوى الثورية. ولكن هذه المرحلة محفوفة بالمخاطر، حيث يتربص العدو الإسرائيلي الطامع الذي يقف على أبواب دمشق، فضلًا عن الخلايا النائمة لقوى الثورة المضادة. ومن هذا المنطلق، ينبغي على السيد أحمد الشرع وصحبه، فور دخول دمشق، التواصل مباشرة مع قيادات الطيف المتعدد لقوى الثورة السورية من أجل تشكيل جسم أولي انتقالي يضم، مختصين عسكريين، وشرطيين، وإداريين، وكفاءات تكنوقراطية مشهود لها، بهدف تشكيل (حكومة تصريف أعمال محددة المهام) لفترة وجيزة.
هذه الحكومة ستكون مسؤولة عن جمع السلاح من الموالين والشبيحة، وضبط الأمن الداخلي، ومنع التجاوزات، وإصدار التعليمات من الوزارات المعنية.
لقد قدمت هيئة تحرير الشام مثالًا طيبًا في التعامل مع السوريين بمختلف انتماءاتهم، ما ترك انطباعًا إيجابيًا وطمأنينة لدى الكثيرين. لكن، هل هذا يكفي؟
لقد أدى تصدّر الهيئة وقائدها السيد أحمد الشرع للمشهد إلى حالة من البلبلة لدى قوى الثورة، وأوصل رسائل سلبية إلى الدول الغربية والعديد من الدول العربية. وقد جاء اجتماع (العقبة) يوم السبت 14 كانون الأول 2024، الذي عقدته لجنة الاتصال الوزارية العربية، ليؤكد في بيانه الختامي على:
- “تشكيل هيئة حكم انتقالية جامعة بتوافق سوري.
- إنشاء بعثة أممية وبدعم أممي لمساعدة سوريا في العملية الانتقالية.
- الوقف الفوري لجميع العمليات العسكرية.
- إطلاق حوار وطني شامل يُشارك فيه جميع مكوّنات الشعب السوري.
- دعم الانتقال السياسي، وفق القرار الأممي 2254 وبدون الأسد وفلوله.
- وقف الأعمال العدائية.
- احترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها.
ورغم سقوط النظام السوري، إلا أن الاستئناس بروحية القرار 2254 يظل ضروريًا لتحقيق الانتقال السياسي، والعبور بسوريا إلى دولة مدنية ديمقراطية، وإرسال رسائل إيجابية إلى الإقليم والعالم. فهذا المسار سيوفر فرصًا جديدة وحماية واعتراف أممي ومهمة لإعادة الإعمار وتأمين الحاجات الضرورية للشعب السوري.
بعضهم يرى في بيان اجتماع العقبة نوعًا من الوصاية على الشعب السوري. إلا أننا نرى أن هذا البيان يحمل إشارات إيجابية تخدم مصلحة الوطن في هذه المرحلة الدقيقة.
فسوريا ليست جزيرة معزولة عن محيطها العربي والإقليمي، بل هي دولة مدمرة ببنيانها وبنيتها التحتية واقتصادها المنهار، وهي بأمسّ الحاجة إلى دعم الدول العربية، وتركيا، والاتحاد الأوروبي.
إن إعادة النظر في البيان، وتطبيق روحيته وخاصة فيما يتعلق بتشكيل هيئة حكم انتقالية بتوافق سوري – سوري، سيساهم في بناء الثقة بين مكوّنات الشعب السوري، ويُمهد الطريق لمرحلة انتقالية فعلية.
صحيح أن القرار 2254 لم يعد ساري المفعول بسبب سقوط النظام، لكن يمكن الاستناد إلى بعض بنوده عبر رعاية أممي وتحقيق خطوات عملية أهمها:
- إشراك القوى السياسية والفئات الاجتماعية في عملية الانتقال السياسي.
- صياغة دستور جديد يُناقش في جمعية تأسيسية، ويُعرض للاستفتاء الشعبي.
- حلّ الفصائل المسلحة وإعادة بناء الجيش السوري بمساعدة الضباط المنشقين.
- إن التحديات الحالية كبيرة وكبيرة جداً وتتطلب إشراك جميع القوى السورية من الداخل والخارج.
- بناء جسور الثقة بين الجميع وبكفاءات والمستثمرين السوريين وغيرهم في عملية هذا الانتقال.
- كما يجب أن تضم هيئة الحكم الانتقالية ممثلي قوى الثورة السورية والمجتمع المدني، لإرسال رسائل إيجابية للدول المؤثرة.
- إن التفرد بالقيادة يعرض الثورة السورية لأخطار جسيمة قد تهدد بعودة الاستبداد أو ضياع ما أُنجز من تضحيات.
إن سقوط رأس النظام لا يعني بالضرورة سقوط الدولة العميقة للنظام، ويجب الحذر والإفادة من أخطاء التجربة المصرية المخفقة والتجارب الأخرى.
وكذلك التمعن بالأضرار البليغة التي أصابت قوى الإسلام السياسي بشقيه في كل من غزة ولبنان ومن غير المعقول أن الغرب سيسمح بوصول مثيله للحكم في سوريا.
إننا وانطلاقًا من مسؤوليته الوطنية والثورية، ينبه إلى المخاطر المحدقة بوطننا وثورتنا وشعبنا، ويدعو إلى الحكمة والتعقل في هذه اللحظة التاريخية المفصلية ويحث المعنيين للذهاب نحو تشكيل حكومة وفاق وطنية جامعة تحصّن الانجازات التي تحققت بدماء شهدائنا وتسير قدما نحو استكمال مهمة الانتقال بسورية إلى دولة تعددية ديمقراطية تتسع للجميع.