fbpx

ماذا بعد سقوط الأسد؟

0 34

على مدار أكثر من نصف قرن، خاض السوريون صراعاً مريراً ضد نظام عائلة الأسد، الذي تأسس على الاستبداد والقمع ونهب خيرات البلاد.

خمسة عقود من الطغيان، تمثّلت في قمع الحريات، تهميش المكونات القومية، وتحويل سوريا إلى سجن كبير يُخْنَقُ فيه الصوت الحر والإرادة الشعبية، وكمحاولة للخلاص من هذا الاستبداد، اندلعت الثورة السورية عام 2011، حيث قدّم الشعب السوري خلالها تضحيات عظيمة عكست عمق إصراره على استعادة حريته وكرامته.

التضحيات كانت كبيرة خلال الثورة، مئات الآلاف من الشهداء، والملايين من المهجرين قسراً داخل سوريا وخارجها، فضلاً عن الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية، ومع تصاعد العنف، تحولت سوريا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، ما أدى إلى تفاقم معاناة السوريين، وتعقيد مسار الثورة. رغم أن الهدف من هذه التضحيات كان إسقاط الأسد وبناء دولة حرة وديمقراطية تحقق العدالة الاجتماعية، وتنهي عقوداً من القهر والاستبداد.

لم تكتف سنوات الحرب السورية بإسقاط القيم الإنسانية فحسب، بل عمقت الشرخ بين مكونات المجتمع السوري. ما أدى إلى استغلال النظام السوري – مدعوماً بحلفائه – التوترات الطائفية والعرقية لتقسيم المجتمع السوري وإضعاف الثورة، وفي ظل غياب رؤية موحدة للمعارضة، ازدادت الانقسامات داخل صفوفها، مما ترك البلاد، فريسة للتدخلات الخارجية وأطماع القوى الإقليمية.

لقد شهد السوريون انهياراً في مفهوم الوحدة الوطنية، حيث باتت الجغرافيا السورية مقسمة بين سلطات أمر واقع تتبع أجندات خارجية مختلفة، وأدى ذلك إلى تآكل الشعور بالمواطنة الجامعة، وتحولت التحديات إلى صراعات على الهوية والمصالح، بدلاً من التركيز على الهدف الأساسي المتمثل في إسقاط نظام الأسد وبناء سوريا جديدة على أسس الحداثة.

في ظل هذه الأوضاع، وبعد إسقاط الأسد، أثار تكليف “هيئة تحرير الشام” بقيادة أبو محمد الجولاني، حكومة الإنقاذ عبر رئيسها محمد البشير، لتسيير شؤون المرحلة الانتقالية حتى 1/3/2025 تساؤلات عديدة حول مستقبل المناطق التي تسيطر عليها الهيئة، وكيفية احتواء المناطق المتبقية، وإخضاعها لهذه الحكومة وصولاً إلى إعادة إنتاج مؤسسات الدولة، التي تبسط سيطرتها على جميع الأراضي السورية، وتحولها من دولة فاشلة إلى دولة قوية تحظى بالسيادة والشرعية الشعبية والدولية. ففي حين يرى بعضهم أن هذا التكليف ليس إلا خطوة لإدارة المرحلة الانتقالية وتقديم بعض الخدمات، يعتبره آخرون على أنه محاولة لترسيخ حكم الهيئة، واستغلال التغيرات السياسية الدولية.

لكن يبقى السؤال الأهم: هل يمكن لهذه الخطوة أن تؤدي إلى نموذج سياسي يُطمئن المجتمع الدولي والمحلي، أم أنها مجرد إعادة إنتاج لسلطة استبدادية بواجهة جديدة، وتهميش القوى الأساسية الأخرى؟ الإجابة تعتمد على قدرة “حكومة الإنقاذ” على تقديم نموذج حكم يحقق العدالة، ويضمن التشاركية على المستويات كافة، ويبتعد عن جميع الأيديولوجيات.

ما يطمح إليه السوريون يتجاوز مجرّد التخلص من نظام الأسد. تطلعات الشعب السوري تتمحور حول بناء دولة ديمقراطية تعددية لامركزية، تقر وتعترف بحقوق جميع المكونات وخاصة حقوق الشعب الكردي، كما أنها تحترم التنوع القومي والديني. بحيث تضمن سيادة القانون، والفصل بين السلطات، والمساواة التامة بين المواطنين دون تمييز. هذه الدولة لن تقوم إلا من خلال مصالحة وطنية حقيقية تعيد بناء الثقة بين المكونات السورية، وإعادة الإعمار على أسس من الشفافية والعدالة.

إن تحقيق هذا الحلم، يتطلب مشروعاً وطنياً جامعاً يلتف حوله الجميع، بعيداً عن الحسابات الفصائلية، والمناطقية، والطائفية، وعدالة انتقالية تضمن محاسبة المسؤولين عن الجرائم دون الانزلاق نحو الانتقام، عبر إصلاح سياسي شامل يُنهي العقليات الاستبدادية، ويرسخ نظاماً ديمقراطياً، بدعم دولي حقيقي يساعد السوريين على تحقيق تطلعاتهم دون فرض أية أجندات خارجية.

إن سقوط الأسد، لن ينهي معاناة السوريين، بل ستبدأ مرحلة جديدة من التحديات لإعادة بناء دولة مدمرة ومجتمع ممزق، ومع ذلك، فإن التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب السوري تضع على عاتق الجميع مسؤولية تحقيق الحلم السوري بدولة حرة وديمقراطية تحظى فيها جميع مكونات الشعب السوري بحقوقها القومية والثقافية، ويعتمد نجاح هذا المشروع على إرادة السوريين أنفسهم، وقدرتهم على تجاوز خلافاتهم، والعمل معاً من أجل مستقبل أفضل يليق بتضحياتهم وآمالهم.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني