مطران السريان في ذمة النظام..
عرفتُ حلب منذ بداية ستينيات القرن الماضي وحتى منتصفه، كنت آنذاك طالباً في دار المعلمين الابتدائية، ومع بداية تشكل الوعي لدي، عرفت أكشاك الجرائد والمجلات ودكاكين الكتب في شارع القوتلي، ومكتبتيْ حلب العامتين: دار الكتب الوطنية العامة، ومكتبة المركز الثقافي في العزيزية، إضافة إلى المكتبة غير العادية في دار المعلمين ذاتها..!
عدت إلى حلب في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي مغضوباً عليَّ من النظام آنذاك ومنقولاً من حقل التعليم الذي أُهِّلْت له، لأصبح كاتب قيود، ومنظم هويات في دائرة السجل المدني ولأشهد تاريخاً جديداً لمدينة حلب يبدأ مع حافظ الأسد بإحاطة أطرافها بالبناء العشوائي، وبانطفاء منارتيْ شارعيْ بارون والقوتلي: (دكاكين الكتب ودور السينما، والاستبدال بها محلات لبيع الألبسة والأحذية والحلويات..) ولأتعرف أكثر على شخصية حلب وتاريخها من خلال السجل المدني نفسه الذي يحرِّض على معرفة مواقع المناطق والأحياء، وأهم العائلات التي تسكنها، ورؤية النسيج الحلبي السكاني المتنوع والراسخ على مدى العصور.. أحياء متجاورة، ومحلات تجارية متلاصقة، والتعرف على الكثير من الشخصيات الحلبية المعدودة في النخب.. شخصيات ثقافية وسياسية ودينية واجتماعية، ونشأت لي مع الكثيرين منها صداقات تحمل المودة والديمومة.. ولعله من الصعب الآن الخوض في ذلك الخضم الواسع من الأصدقاء، ومن بين هؤلاء يخطر ببالي، دائماً، نيافة المطران يوحنا إبراهيم، مطران السريان الأرثوذكس تلك الشخصية الدينية التي كنت ألتقيها بمناسبات الأعياد الإسلامية والمسيحية، وفي الندوات الثقافية والسياسية أحياناً، فيأخذني بدماثته وسعة ثقافته.. ولطالما منحتنا الحياة فرصاً للخوض في عمقها تاريخاً وآثاراً إنسانية وهو شخص متنوع الثقافة لا بما يتيح له مركزه وتنقلاته بل بما لديه من قدرة على البحث والتزود بما هو جديد.. يحمل المطران يوحنا شهادة الدكتوراه في التاريخ القديم إضافة إلى دراساته اللاهوتية، ولعله من هذا الباب ومن باب اهتمامه بالآخر (له كتاب عنوانه: “الآخر”) قال لي ذات نقاش هادئ حول الأديان وفي وحدة الثقافة وتراكمها وتكاملها عبر العصور، واستناد لبناتها بعضها إلى بعض: “قد أخطأت المسيحية في التعامل مع التراث الثقافي الوثني إذ غيَّبت معظم آثار الثقافة الوثنية، كذلك حصل خلال الفتوحات الإسلامية إذ اندثرت بعض آثار الثقافة المسيحية.. وهو بذلك ينظر إلى أهمية فعل الإنسان، وتنوع أشكال إبداعه، والتعبير عن محتوى حياته، وطموحاته..!
أما انحيازه إلى الثورة السورية فقد جاء شكلاً من أشكال الإفصاح عن رغبة في إحداث تغيير ما، كان المجتمع السوري في حاجة إليه بعد أن غدا من طول ركود أشبه بمستنقع، وهو الذي كان دائم الترحال في الكثير من بلدان العالم حاملاً وطنه في قلبه ووجدانه ما يجعله دائم التفكير في شؤونه نهوضاً وارتقاء ومحاكاة للبلدان التي يرى تطورها وتقدمها، وهو السرياني الذي يلازمه شعور تفوق قومه ودورهم في الحضارة القديمة لبلاد ما بين النهرين ثم دورهم في نقل الثقافة اليونانية إلى الحضارة العربية الإسلامية.. ولم يكن ليفعل ذلك سراً بل كان وبحكم مركزه يوصل وجهة نظره إلى المسؤولين بصدق وصراحة، وهدفه إيجاد طريق سلمي لإحداث التغيير المطلوب.. لكن النظام لم تكن لديه القدرة على هضم مثل تلك الأمور. فهو لا يرى أحداً، في البلد، يمكن أن يسدي له نصيحة ما أو يقرأ عليه رأياً غير مباركته والتسبيح باسمه..
إنّ لانحياز المطران يوحنا إبراهيم إلى الثورة السورية بقصد التغيير باتجاه هامش أوسع من الحرية والديمقراطية معاني خاصة. فإضافة إلى الروح الوطنية التي تمكِّنه من قراءة الواقع السوري الآخذ في الانحدار، يكذِّب النظام في مقولته بحماية الأقليات، بل هو ينسفها من جذرها.. إذ إن تقسيم المجتمع إلى أقلية وأكثرية يسهِّل على المستبد هدفه في التفرد والسيادة، وخلق روح الانقياد لدى فئات الشعب وتنوعها.. ومن هنا كان اختطافه مع مطران الروم الأرثوذكس بولس اليازجي منذ سبع سنوات وكان في مهمة التوسط لدى الإفراج عن بعض المختطفين، إذ كثرت عمليات الخطف وسرقة السيارات، وطلب الفدية وسوى ذلك.. وإلى الآن لا أحد يعرف مصير المطرانين.. وقد كانا في مهمة للإفراج عن أشخاص مختطفين لدى إحدى الفصائل العسكرية..
يروي الأستاذ فؤاد إيليا الذي كان معه لحظة الاختطاف أنه كان متوازناً في طروحه مع ميل إلى التغيير للضرورات الوطنية والاجتماعية، وكان متفائلاً في المستقبل.. إذ إنّ سيدة سألته، مع احتدام المظاهرات الشعبية الأولى في سورية، وكانت خائفة، عن مآل ما يجري في سورية، فردَّ مطمئناً إياها: لا تجزعي إنها حالة ولادة، فهل تخيف الولادة أم تفرح؟! ويضيف إيليا أيضاً: رفض المطران عرض النظام إقامة حاجز أمني عند باب الكنيسة إذ كان جوابه: الكنيسة يحميها الرب..!
ويروي، كذلك، الأستاذ باسم خوري (ابن الطائفة والمقرَّب من الكنيسة) عن لسان المطران حين سئل عن رغبته في الهجرة قوله: “أتمنى أن أموت شهيداً في وطني لا أن أعيش شريداً في العالم”.
وأخيراً يمكن الإشارة إلى أنَّ حلب، وإن وقف شركاء النظام ضد الاحتجاجات الشعبية، فإن نبض المدينة بأطيافه كافة، كان إلى جانب التغيير والتجديد.. يشير إلى ذلك “نداء من أجل حلب” الذي وقعتْه ثلة تمثِّل النسيج السكاني الحلبي كله، فقد كان من بين الموقعين: المسلم والمسيحي والأرمني والكردي، وكان الكاتب والمدرس والمحامي والطبيب والتاجر، إضافة إلى الشيوعي والناصري والإسلامي والمستقل..!
أما الأمر الآخر فيتعلق بالنظام الذي كان يخشى حلب، ويحسب لها ألف حساب، ولذلك جنَّد، منذ البداية، العشائر وتجار المخدرات والفاسدين وشبيحتهم. وقام ببعض التفجيرات في قلب المدينة لإرهاب السكان.. ولكن دون جدوى.. كما أنه لم يتصدَّ لداعش عندما دخلت المدينة عام 2013 لتساهم معه في تدمير المدينة القديمة، وبعض المعالم الأخرى، وها هو ذا الآن يعد العدة أو تُعَدُّ له ليغادر مصحوباً بالذل والأوزار.. وربما لانتظار مصير يوازي حجم الدمار الذي حل بسورية وأهلها..
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”