fbpx

سيرونيكس

0 280

أذكره ذلك اليوم، المهيب والاستثنائي في بيت عاشور حين تم استقباله بموكب ملكي بعد أن تناولته الأيدي بمنتهى الرقة والحرص والحذر من السوزوكي مع الكثير من الهرج والمرج:

يا أخي شيل من تحت وأنا أحمل على جنب.. طول بالك على مهلك شوي شوي ..أي نعم بحنية الله يرضى عليك.. استغفر الله  يا أخي على مهل على مهل وهكذا الا أن ترّبع على طاولة وضعت في واجهة الصالون خصيصاً كي تُناسب مقامه الكريم مُقابل الكنبايات مباشرة ووضع على كتفه غطاء تم إعداده مسبقاً بلونه الأبيض المُطرز بورود حمراء وصفراء ناعمة، حينها اجتمع الجيران والخلان كي يُشاهدوا الضيف الكريم.

هكذا كان اليوم الأول لتلفزيون سيرونيكس الذي دخل بيتنا أول مرة

تناهشته عيون الجارات وهن ينظرن بشبق إلى إطار خشب الزان الذي زين شاشته شبه الدائرية في المنتصف وقد رُصّعت جوانبه بأزرار سوداء لتوليف القنوات والتشغيل والتوقيف.. ومنهن من تجرأت فلمست تلك الأزرار بشيء من الحياء والشهوة.

ولأنه لم يكن قد تم اختراع الريموت كونترول حينها، كان علينا أن نضغط على زر التشغيل كي نشاهد خيطاً أزرق ساحراً يمر من مُنتصف الشاشة أول الأمر ثم تظهر بكل عبقرية صورة الأسود والأبيض المُتحركة.. سبحان من سخر لنا هذا!

لم يكن بث تلفزيون حزب البعث والنظام قد وصل إلى الحسكة حينها واكتفت الحكومة بتشغيل محطة تقوية كانت تبث من جبل عبدالعزيز المجاور وكان الإرسال عبارة عن مباريات قديمة من الدوري الإنكليزي حيث واجهنا صعوبة بالغة حينها بشرح الأمر لجارتنا خالة فهيمة في أن هؤلاء الذين يلعبون الكرة ليسوا رجال صغار القامة وقد تجمعوا داخل هذا الصندوق.

مع الوقت تعلمنا بعض الأسرار فقمنا بتحويل الهوائي باتجاه جارتنا العراق حيث تابعنا كل تحركات صدام حسين حين يضحك وحين يأكل وحين يمنح دراجات هوائية لأبناء المدن الفقيرة (ها ها هيء عطو دراجة وسلمنا على خوانك)

مع الوقت صار التلفزيون جزءاً من أفراد العائلة وبدأت هيبته تخف شيئاً فشيئاً ونحن نضغظ زر التشغيل لنسمع صوت طررراق فتظهر الصورة وجررررك فتختفي الصورة الا أنه وفي إحدى المرات اختفت الصورة تماماً فحاولت أن أعبث بالأزرار لكن دون جدوى وكل ما كان يحدث هو إضاءة خفيفة جرّاء احتراق اللمبات حيث لم تكن قصة الشرائح الإلكترونية قد اكتشفت بعد فتتوهج الشاشة بعض الشيء ثم ما تلبث أن تُظلم من جديد حتى ضقت ذرعاً بهذا السيرونيكس العرص فضربته على رأسه وإذا بالصورة تعود من جديد وعين الله عليها.

اكتشافي لسر إعادة تشغيل التلفزيون لم يقل أهمية حينها عن اكتشاف أديسون أو نيوتن وأنا الذي اكتشف سر إعادة الروح للتلفزيون حينما يحرن.. بوكس على رأسه فيعرف أن الله حق ويعود للعمل ثانية وفي إحدى المرات شعرت بالتكاسل من القيام لخبطه على رأسه فضربته بالشحاطة القريبة مني فما كان منه الا أن رضخ لمشيئة الشحاطة وعادت إليه الحياة من جديد.

وهكذا صرت كلما أريد أن أشاهد التلفزيون أضع بجانبي التفاح الأشوري الحامض والبطيخ الديري وزجاجة كراش وكل الشحاطات والصرامي الموجودة في البيت وكلما فكر هذا العكروت في أن يحرد أناوله صرماية فيعود للعمل من جديد حتى أن الأصدقاء أثناء زيارتي وبعد أن عرفوا سر التلفزيون صاروا يقومون بجمع الشحاطات والصرامي المكومة على مدخل باب البيت أو أمام التلفزيون، ومن يومها صار للصرامي مهمتان في البيت المهمة الأولى صرماية والمهمة الثانية جهاز أجهزة التلفزيون إلى أن باغتته في إحدى المرات صرماية غاضبة جعلته يصمت إلى الأبد.

وهكذا مثلما استقبلنا الضيف الكبير بالترحاب ودعناه بالصرامي.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني