fbpx

قراءة في “بيان إلى الرأي العام السوريّ لا للكراهية.. نعم للتشارك والتضامن”!

0 72

تقييمنا لواقعية أفكار البيان وجدوى هذا النشاط الذي يعبّر عنه من منظور مصالح السوريين الوطنية المشتركة في خطوة الانتقال السياسي والتحوّل الديمقراطي يقوم على أساس موضعية أو عدم موضوعية ما يقدّمه من قراءة لوقائع المشهد السياسي والعسكري السوري، وفاعلية او عدم فاعلية آليات التغيير التي يطرحها في ضوء تلك القراءة.

أوّلاً: 1- في تقييمنا لموضوعية قراءة أصحاب الوثيقة للمشهد السياسي والعسكري، من خلال قراءتها لأسباب الكراهية

في رؤيتها للأسباب، لا تقدّم الوثيقة النخبوية ما هو جديد عن رؤيتها السياسية السابقة لطبيعة الصراع السياسي في سوريا ما قبل 2011، متجاهلة طبيعة الصيرورة التي أعقبت حراك السوريين السلمي وما نتج عنها من تغيّرات نوعية على صعيد النظام السوري!.

فما يزال العامل الرئيسي المولّد للكراهية هو “السلطة الحاكمة”، وصيرورة توفير شروط مختلفة تبدأ بها، وقد كانت كذلك على الأقل منذ 1970، فهل “السلطة” التي كانت حاكمة قبل 2011 ماتزال نفسها، وتحمل لوحدها مسؤولية توفير وتعزيز شروط الكراهية بعد 2011، ويقتصر فعل التغيير عليها؟.

لماذا يتجاهل هذا العقل النخبوي طبيعة صيرورة “الخيار الامني العسكري الميليشياوي”، وما صنعته مصالح القوى السورية والاقليمية والدولية التي تورّطت في مراحل حروبها المتتالية حتى نهاية 2019، والتي لم تكن “سلطة النظام” فيها سوى شريكا للنظام الإيراني في المنطلق والمسارات والمآلات، وهو الذي لم يكن بأدواره وأدواته سوى شريكا رئيسيا للولايات المتّحدة، يقود ميدانيا حروب تحقيق أجندات مشتركة-تفشيل سوريا، وتقاسمها إلى حصص، على طريقة النموذج العراقي.

فرغم مشاركتها الفاعلة، لم يكن للسلطة اليد العليا في تحديد مآلات تلك الصيرورة الأمريكية الإيرانية التي صنعت في مسارات الخيار العسكري بين 2011-2019 شروط الكراهية التي يعاني منها السوريون اليوم، (وهذا لا يعفي السلطة من مسؤوليتها التي يعرفها الجميع، بل يوضّح الطبيعة التشاركية، والعامل الرئيسي في صناعة صيرورة التفشيل والتقسيم)، وقد كان من الطبيعي أن تصبح في نهاية 2019 إحدى سلطات الأمر الواقع، وأضعف قوى جيوش السيطرة في تحديد مآلات التسوية السياسية!؟

إنّ تغييب المسؤوليات الحقيقية التي تتحمّلها الولايات المتّحدة، كونها صاحبة أقوى مشروع سيطرة إقليمية، وكونها الرابح الرئيسي من نتائج صيرورة الخيار الامني العسكري بين 2011-2019 (كانتون “قسد”) يخلط الأوراق، ويُضيّع بوصلة التغيير الوطني الديمقراطي، ويجعل من تحميل سلطة النظام الشريكة فقط المسؤولية، هروباً من واجب تقديم قراءة موضوعية ورسم خارطة وآليات تغيير سياسية وطنية ديمقراطية واقعية، وفعّالة، ويزيد في تعقيد المشهد السياسي وخلط الأوراق، وتضليل الرأي العام السوري!![1].

2- في تقييمنا لموضوعية آليات التغيير كما طرحها أصحاب الوثيقة في رؤيتهم لطريق الخلاص:

نتعهّد “نحن الموقعين أدناه على.. القيام بجميع ما من شأنه أن يؤدي إلى الانتقال إلى نظام سياسي وطني ديموقراطي، أساسه صون حرية جميع السوريين وكراماتهم، بوسائل سلمية وعقلانية، سياسية ومدنية وثقافية.

هل تعهدّكم بـ “القيام بجميع ما من شأنه” يشكّل “آلية” التغيير السياسي الديمقراطي في شروط السيطرة والتقسيم القائمة اليوم؟

إذا كنتم تنطلقون من رؤية غير موضوعية لطبيعة مشهد السيطرة والاحتلالات القائمة، بتركيبتها الميليشاوية والأجنبية، وبتغييب عامل صناعة صيرورتها الرئيسي في مصالح وسياسات السيطرة الإقليميّة التشاركية الأميركية الإيرانية، فمن الطبيعي أن تفقدوا الرؤية الموضوعية لآليات تغيير فعّالة، وتكتفون “بتعهّد” لن يكون أفضل من تعهدات السلطة السورية التاريخية والراهنة، أو شركائها الرئيسيين في صناعة صيرورة الخيار العسكري، إيران والولايات المتّحدة، اللتين باتتا بجيوشهما وعبر الوكلاء السوريين، تتقاسمان السيطرة على حوالي 90% من سوريا ما قبل 2011!!

ثانياً: في القراءة الموضوعية:

1- إذ تتقاسم سوريا جيوش احتلال وسلطات أمر واقع ميليشياوية في صيرورة الخيار الأمني العسكري بين 2011-2019 (الذي كان للولايات المتّحدة الدور الرئيسي في توفير شروط نجاح أهداف مراحله، خاصة بين 2015-2019) يُصبح من المستحيل حصول تغيير ديمقراطي، وفقاً لأي مسار سلمي أو عسكري، يتناقض مع هدف الولايات المتّحدة المركزي كما تجسّد في نهاية 2019 إقامة قاعدة ارتكاز عسكرية ولوجستية دائمة؟ وهو ما يفسّر السبب الرئيسي لتفشيل مسار جنيف والقرار 2254، وقد يؤدّي تنفيذه في الخطوات وفي السياق إلى تفكيك سلطات الأمر الواقع لصالح سلطة “تشاركية” مركزية، وفي الصيرورة، إلى إطلاق مسارات انتقال سياسي وتحوّل ديمقراطي، ويوفّر شروط وقف الكراهية.

2- رغم توافق مصالح جميع السوريين، بما فيها سلطة النظام نفسها (التي من مصلحتها إعادة بسط سيطرتها على كامل الجغرافيا السورية) والنظامين التركي والروسي والمجموعة العربية (وحتى حكومة العدو الإسرائيلي، كما أعلن نتنياهو في ختام مؤتمر القدس الأمني، صيف 2019)، في تنفيذ القرار 2254، كلّ تلك العوامل مجتمعة لم تُقنع واشنطن، أو تُجبرها على التخلّي عن كانتونها القسدي، فكيف يمكن للسوريين، جميع السوريين، أن يجترحوا آليات ومعجزات التغيير السياسية أو العسكرية، وما هي قيمة تعهدكم، أيّها السادة، خاصّة وأنتم تصرّون على تقديم قراءة سياسية غير موضوعية لطبيعة الصراع، فقط للتوافق مع خياراتكم السياسية والثقافية الفئوية؟!

3- نقطة أخيرة تبيّن واقعية التحليل والاستنتاجات، وطبيعة الأهداف الحقيقية لأصحاب البيان:
الذين دبّجوا البيان وروّجوه في أوساط النخب السياسية والثقافية يدعمون إجراءات تأهيل سلطة قسد على الحصة الأمريكية (بخلاف معظم الموقعين لدوافعهم الوطنية والإنسانية)، ويتجاهلون أنّ مسار تأهيل قسد السياسي يتعارض مع مسار جنيف، ويلغي عمليا محطّة 2254، ويتضمّن في السياق والصيرورة تأهيل باقي سلطات الأمر الواقع، وفي مقدمتها السلطة الشرعية، وبالتالي يدعمون واقعيا صيرورة تقسيم سوريا وتفشيلها، وهذا يتناقض مع أفكار البيان المعارضة لشروط وسلوكيات وثقافة الكراهية التي وافق عليها الموقعون، ويبيّن طبيعة التضليل و”النفاق السياسي” الذي يمارسه طيف واسع من النخب، مغلّفا بأفكار بيانات خلّبية وأنشطة ثقافية، ليس لها أي تأثير واقعي!.

ثالثاً: في الاستنتاجات:

إذا كانت آليات التغيير غير فعالة، والرؤية السياسية التي تقوم عليها غير موضوعية، فما هي القيمة العملية السياسية لتعهدكم بالعمل على بناء نظام ديمقراطي؟

والحال هكذا، كيف يتعافى السوريون من الكراهية في غياب وجود مسارات موضوعية لتحرير سوريا وبناء نظام ديمقراطي ومرحلة العدالة الانتقالية، في سياقات صيرورة واحدة، ماتزال مصالح وسياسات الولايات المتّحدة هي العقبة الرئيسية أمام إطلاقها، وما يزال تغييب هذا العامل الرئيسي هو المتحكّم بعقلية ووعي وثقافة جميع أطياف نخب المعارضات، خاصة اليسارية والكردية؟.

يبدو جليّا أنّه رغم ما تضمّنه البيان من أطروحات وأفكار مثالية، تستهوي الرأي العام السوري، وتدغدغ أماله، لا يملك أيّة قيمة سياسية واقعية، ويقدّم نموذجا آخر لحالة انفصال الوعي السياسي النخبوي عن حقائق الصراع على سوريا منذ ربيع 2011 وما نتج عنه من وقائع في صيرورة الخيار الأمني العسكري الميليشياوي جعلت من سلطة النظام أضعف الشركاء، وأقلّهم قدرة على تحديد مآلات التسوية السياسية التي باتت أمريكية إيرانية في جوهرها، تسعى لتثبيت وشرعنة تقاسم الحصص الرئيسية بين الشريكين على مناطق سيطرة قسد والسلطة السورية!


[1]– لنفترض نظرياً حدوث تغيير سياسي نوعي على مستوى سلطة النظام خارج سياق تسوية سياسية شاملة، تقودها بالضرورة الولايات المتّحدة، هل ستملك السلطة البديلة وسائل كافية، سياسية وعسكرية، لبسط سلطتها على كامل الجغرافيا السورية، أو إقناع الولايات المتّحدة بالتخلّي عن جهود تأهيل سلطة قسد، وتحويل كانتونها إلى قاعدة ارتكاز عسكرية ولوجستية دائمة، وتبنّي مسار القرار 2254، أو حتى بإخراج “حلفائها” الروس والإيرانيين؟ وهل سيقنع بقية الشركاء، من قوى الاحتلال وسلطات الأمر الواقع، بالتنازل عما حققوه من حصص ومناطق نفوذ ونهب؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني