المثقف ووظيفته بين الممارسة والعطالة
لايزال المثقف – وهو هنا منتج الثقافة بمعناها الواسع – محطَّ الآمال من قبل من حوله، على امتداد قارات العالم، كي تكون له كلمته في كل ما يحيط به، صغيراً كان أم كبيراً، وهي مكانة استطاع انتزاعها جيلاً بعد جيل، من خلال أدائه المهمة الكبرى الملقاة على عاتقه، وهي أن يكون ضمير من حوله، وصوتهم، يقف إلى جانبهم في الأفراح كما الأتراح، في المحن والشدائد، ولحظات التحول الكبرى، لأنه قادر على استقراء الواقع، وتحليله، واستشراف الآفاق، من خلال بعد نظره، ودقة حدسه، وعمق تجربته، واطلاعه ليس على تاريخ شعبه، وتجاربه، فحسب، وإنما اطلاعه حتى تجارب الأمم والشعوب من حوله، من خلال متابعته الدقيقة تاريخهم، في ظل المشترك الإنساني.
لقد استطاع الكتاب والمفكرون والفنانون، في أوربا، أن يكونوا بوصلة أهلهم، رغم اختلافات وجهات نظر كثيرين منهم إلى حد التناقض، إلا أنهم – وعلى الدوام – كانوا قادرين على تشخيص الواقع، كما هو، بل ولم يتلكؤوا – البتة – في تقديم تصوراتهم لذويهم، وإن كان التفاعل بين: ما هو راهن وما هو مستقبل، كان عبارة عن أخطوطات، أو نويات نظريات، أو حتى نظريات، لما يزل الكثير منها صالحاً للقراءة، وقد تتم العودة إليها، بين حين وآخر، كي تتم الاستفادة من الكثير من هاتيك الخلاصات والدروس التي تم التوصل إليها، حيث كانت روح المثقف – أياً كان موقعه الفكري – هائمة في حب من حوله، ينصرف إلى خدمة أهله، بل والعالم كله – كما كان طموح كثيرين ممن اشتغلوا في القضايا الكبرى – مركزين على ماهو إنساني، ومنه ما لايزال يتمتع بديمومة سطوته، وإمكان خدمة العالم، بل إن بعض النقاط التي قدمها هؤلاء تم التأسيس عليها، والاشتغال عليها، وتطويرها، كي تستطيع أن تتجدَّد، من خلال تناولها من قبل من جاء فيما بعد، ليترك أثر بصماته عليها.
وإذا كنا نتحدث – هنا – عن أثر السابق على اللاحق، ضمن دورة تكاملية، هي دورة التاريخ، أو جزء منها، فإنه لحري بنا أن نشير، ولو بعجالة إلى حقيقة أن مسرح هذه التكاملية لم يكن الغرب وحده، وإنما كان الشرق والغرب، في آن معاً، فما أكثر الأخطوطات الأولى التي التقطها الغرب من الشرق، في إطار التفاعل، الخلاق، كي تكون هناك خدمات حضارية، ثقافية، على نطاق كوني، سواء أكانت أرومة تلك الرؤى، علمية، أم إبداعية، أم فنية، وهو ما يؤكد الشراكة العامة، في الكثير من الإنجازات التي نشهدها – الآن – على مستوى كوني، كي تكون بذلك: أعطيات الإنسان، بغض النظر عن هويته، لاسيما في هاتيك الإنجازات التي لم يتم التوصل إليها، إلا نتيجة تراكمات وتفاعلات الحضارات فيما بينها، وإن كنا نقرُّ – في هذا المقام – أن مثل هذه الإنجازات التي نشير إليها، كانت ضمن حدود مراحل زمانية، بلغ الاهتمام بالثقافة في الشرق أوجه، بيد أن حالة الفصام التي تمت فيما بعد كانت لها نتائج وخيمة، لأننا بتنا في حضرة منجز يقدم من قبل مجرد طرف واحد، في دورة الحياة.
هذه القطيعة في التفاعل بين الشرق والغرب، باتت تردم هوتها – ف ي عصر التقانة والثورة المعلوماتية – وإن كنا نجد أن حالة التفاعل تكون عبر نوع من التبعية العليا، التي لم تكن موجودة من قبل بمثل هذا المستوى، ما جعل جمهور المثقف يفتقد التواصل معه، من خلال غرقه في بعض التقنيات التي قدمها له الآخر، ما جعل مثقفنا يعيش عزلته الجزئية، وباتت دائرة تأثيره المكاني، تكاد تقتصر في حدود الإنتلجنسيا نفسها، حيث انحسرت بقعة حراكه الثقافي، وباتت أسماء كبيرة مشتغلة في إطار الفكر غير معروفة في جغرافيتها الأولى، إلا على مضض، بل إن أية محاولة لتتبع الأثر الذي يتركه مثقفون نخبويون كبار، لابد وأن تصبح دراساتهم وبحوثهم التي أنجزوها مراجع للأجيال القارئة التي ستأتي، لتؤكد أنهم لم يستطيعوا اختراق جدار التواصل مع القاعدة الاجتماعية الواسعة، بالشكل المتاح، واللائق بسعة فضاء التواصل الافتراضي..
إن مثل هذه القطيعة في تفاعل المثقف مع عصره، ومحيطه، رتب ترك العامة تحت رحمة مصادر الإعلام، المتنوعة، الرسمية منها، وغير الرسمية، وهوما استفادت منه الأنظمة الاستبدادية إلى وقت طويل، قبل اندلاع ثورات الربيع العربي، حيث كانت تستطيع العمل على المستويين المعروفين: الداخل، والخارج، مادامت تقدم صورتها للداخل على أنها الأنموذج المنقذ، الممانع، المقاوم، الذي لا غنى عنه البتة، مع عدم نسيان تبغبغه، ليكون مجرد مردد لإنجازاتها، مسبح بحمدها، في الوقت الذي كانت تجوع فيه شعوبها، وتمتلئ سجونها بأصحاب الرأي، هؤلاء الذين سرعان ما يتم تخوينهم أمام الرأي العالمي، والمحلي، في طريق تصفيتهم غير المباشرة، أو حتى المباشرة في بعض الأحيان، كما أنها لم تنس أن تقدم نفسها الأنموذج المنقذ عربياً، من خلال استثمار القضايا الكبرى العالقة، وفي مطلعها قضية فلسطين، من دون أن تكون أكثر من متطفل عليها، بل إنها أسهمت في ديمومة المحتل، تحت غطاء مقاومته، مشتغلة على المعادلة الدولية، بشكل متقن، من خلال إنتاج كم هائل من الأوراق التي تحقق لها حظوتها على نطاق عالمي، وإن كان العالم كله مطلعاً على ما يدور في داخلها، بيد أنه انخرط في لعبة تغاضي النظر عنها، وأن ذلك ما تحول – في ما بعد – إلى تواطؤ علني، لا تضله أية قراءة جادة.
من البدهيِّ، أن المثقف ليتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، أمام ما حدث، لاسيما عندما يكون من ذلك النمط الذي لم يقارب ما اعتبرته الأنظمة الاستبدادية “حقول ألغام”، أو ذلك الذي يدافع عن سوءات هاتيك الأنظمة التي باتت الآن تفتقد “ورقة التوت” المصطنعة التي كانت ترتديها، وهو ما زاد من الهوة بينه وجمهرات متلقيه، الافتراضيين، كي يصبح كثيرون من الأسماء الكبيرة، ذات الخبرات العالية، والرؤى الدقيقة، وكأنهم يرسلون إشارات غامضة لا تقرأ، مستعيداً ما يشبه دور الطبيب الذي يشخص علة مريضه، الذي لا يكترث لابه ولا بالبلسم الذي يقدمه…!؟.
وتبلغ هزيمة المثقف – أوجها – عندما نرى أن تأثيره يكاد لا يذكر البتة، أمام نهر الدماء التي تسيل، من أحد عنوانات ثورات المنطقة، حيث نكاد نرى قلة من المفكرين الذين تتم متابعاتهم، وإن كان بعضهم – كما حال المفكر السوري د. طيب تيزيني – قد شخص الواقع بموضوعية كبرى، من خلال مؤلفه الأكثر أهمية “من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني2001″، بل استشرف الأفق المسدود لأحد هذه الأنظمة، التي لجأت إلى الإفساد، إفساد ما لم يفسد، بعد ضلوعها في الفساد، بيد أننا بتنا نجد ارتفاع أصداء ضجيج طاحونة الإعلام، وما هو خبري، على ما هو رؤيوي، فكري، ثقافي، بل ولم يعد الأمر يقف عند هذه الحدود، لأننا لن نجد ذلك العمل الإبداعي الذي يصل إلى مستوى رصد ما يدور، في الأشكال الإبداعية، جميعها، وإن كنا سنجد محاولات انفعالية هنا وهناك، والألم من كل ذلك، هو أن مثل هذه الأعمال – في ما لو كتبت – فإنها لن تصل إلى متلقيها المعني بخطابه، وهنا – تحديداً – تكمن ذروة تلك الهزيمة.
ومن هنا، فإن الدور الذي أداه عدد من المثقفين، عشية الربيع العربي، كان له أثره، الأكبر، من أثره، الآن، بعد أن سقط جدار الخوف، وبات صوت الشباب الثائر، يرتفع، هادراً، في عدد من البلدان، إما في إطار صناعة الثورة، أو في إعداد ما يمكن وسمه بـ “الثورة على الثورة، التي تستحق وقفة متأنية، منفردة، حيث أصوات هؤلاء، لاتكل ولا تمل من استمرارها، وتواصلها، بيد أن ماي مكن الحديث عنه – أيضاً – أن إمكان تأثير هول المجازر، والمقاصل، والمقاشر التي تتم في مثل ذلك العنوان – المشار إليه كمثال مشخص – يصطدم بعدم التفاعل معه من قبل الغرب، في حدود وضع حد نهائي لدراما ابن المكان، الذي يدفع أعظم ضريبة ممكنة، في إطار مناداته بديمقراطيته التي سيكون في تحقيقها إنجازاً على طريق التحرر والسلام في العالم.
وإذا كان المثقف – لما يزل يلعق عصارة حنظل هزيمته، لأنه لم يكن حاضراً في التحولات الجذرية الأخيرة، التي يراد كبحها، أو إلباسها أردية ضيقة أو فضفاضة، لا تناسبها، وهو أمر آخر، فإن ما يسجل له هو أنه كان الممهد لها – وهنا أعني الأنموذج اللصيق بهموم إنسانه، المترجم لمثل هذا الهم، عبر الموقف، وإن كان الخلل الذي طرأ على المعادلات العامة، من حوله، لا يتوقف في حدود ما هو قطري، أو إقليمي، بل وما هو كوني، كي يحاول التخلص من إعياءات الصدمة والانبهار، عبر اللحاق بالمركبة التي تشق عباب أمواج المحيطات العاتية، في هذه اللحظة التي بات تبادل التأثير في إطار الدولة الوطنية، أو الوطنية الكونية، يواجه التحديات الجديدة التي لابد من الإعداد لدخول مغامرتها، ومن جديد، عبر الأدوات التي ترتقي إلى مستوى طبيعة اللحظة، وأسئلتها الحساسة.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”