موت العولمة
بعد انتشار الفيروس التاجي – كوفيد 19 “ابن أبيه” – أو لربما ابن كورونا، والمنسوبين – أرومة – إلى الجد الأكبر: سارس، لعنهم الله جميعاً، روجت نبوءات ومقولات كثيرة، فمنهم من رآه قادماً ليكنس الكرة الأرضية من رجس المستبدين، ومنهم من رآه، يعيد رسم الخرائط، وغير ذلك من المقولات، والافتراضات، وقد يكون بعضها صحيحاً، لاسيما أن مصير الدكتاتوريات واقتسام خرائط العالم، وفق بارمتر مصالح الكبار في العالم قد بلغ ذروته، وآن له أن ينهار، بعد أن انهار أخلاقياً، أو ولد منهاراً. وإذا كان العنف قد محى خصوصيات بعض الشعوب تحت طلاء الديمقراطية – والديمقراطية في حالتها الطبيعية لا تمحو ملامح أحد – ولا تخلد دكتاتوراً، ولقد رأينا أن التطبيق البائس لأرقى أنموذج اشتراكي في العالم – الاتحاد السوفياتي – لم يستطع إنصاف الملل والشعوب المنضوية تحت جناحي أعظم تجربة اشتراكية في العالم، ولا خارجهما، كما قرأنا عنها نظرياً، فإن ثمة ظلماً كبيراً تعرضت له شعوب كثيرة، وما إن فتحت نوافذ الأمل، فإن كثيراً من هذه البلدان – المنضوية/المنضمة بالرغم عنها – إلى تلك المنظومة، وبعد زوال الأخطار المحدقة سارعت وتسارع، للمطالبة بتحررها، لندرك أننا كنا أسرى الوهم، مع تقديري الكبير لجوهر تجربة الاشتراكية، التي أخذت بألبابنا، انطلاقاً من جوهرها، إذ أرى – وهو رأيي الشخصي – أن العدالة الاجتماعية هي ضالة ومطلب ومآل سكان الكرة الأرضية، وإن كان من بيننا من يعرقلون أية بادرة ديمقراطية، لإعادة العالم كله إلى كنف الظلام. كنف العصور المقيتة!
من بين الطروحات الاستباقية التي قدمها بعضنا، نبوءة: “موت العولمة” التي ما من متابع، مطلع، على ما يجري في العالم، إلا ويدرك أن – النيوليبراليين – الذين يسعون لتحقيق مجتمع الثلث. المجتمع الذي باسمه يتم التسويغ لدمار العالم، وراء كل كوارث الكون، وإن كان بعض قصار النظر يخلط ما بين منجزات المعلوماتية والعولمة، ليروا أن الأولى هي نتاج الثانية، بينما هي نتاج العقل البشري، عبر التاريخ، وما النيوليبرالية إلا امتداد لقوى الشر، قوى النهب، قوى الاستغلال، القوى التي رسمت خرائط العالم، ملغية جغرافيات، وأوطاناً، من قبل، وها هي تريد إلغاء العالم كله، ماعدا من تراهم جديرين بالحياة!
إن الجائحة التي اجتاحت العالم لم تبق أحداً خارج دائرة تأثيرها. الكبار والصغار، القائد والمقاد، الظالم والمظلوم، ولابد أن عروش كثيرين من الطغاة اهتزَّت بعد هذا التحدي الكوني الأول من نوعه، إلا إن أرباب العولمة لا شيء تغير في حساباتهم، لأن ما جرى إثر – الانفجار الكوني الكوروني – إنما هو نتاج عبث هؤلاء بالطبيعة، باعتبارهم قادة غير أمناء على المهمة التي تنطعوا لحملها، لأنهم – في النهاية – ممثلو مصالحهم، وليسوا ممثلي العالم الذي يدعون حكمه باسم الشعوب، كما إن نهاية قوى الشر أكيدة، ولو أن قوى الخير التي تقدم نفسها، لمواجهتها، تنطلق هي الأخرى من مصلحة خاصة، وتكرر أخطاء منفرة، حتى على صعيد معيشة رعاياها.
وموت العولمة – بهذا المعنى – مؤكد، لأنها قائمة – في الأساس – على الدمار، والقتل، وإلغاء الآخر، بل إلغاء الشعوب، حتى وإن ادعت طهرانيتها، وطرحت ملفات إنسانية، إلا أن فحواها – ولا أقول جوهرها – يدحض روح وخطاب حقوق الإنسان، إذ لا يمكن لقاتل، أو شريك لقاتل، أو ساكت عن جريمة قتل، أن يكون في موقع حل إشكالات العالم، وما أكثرها!
والعولمة، على ضوء سلوكها، وجرائمها التي تمارسها، كامتداد لأعتى أنواع الاستعمار هي مفرخة فيروسات، بل هي في ذاتها فيروسات مكشوفة، بيد أنها مسلحة بإعلام، ومنظرين، وقوى باطشة، إرهابية. راعية للإرهاب، وما من مشكل – على سبيل المثال – في منطقة الشرق الأوسط – سعت لحلها، إلا وهي “تلغمها” في الوقت ذاته. تزرعها بما ينسفها، ويحطمها، بل إن أحد أهم قضايا المنطقة: قضية كردستان الكبرى – لم تعمل البتة على حلها، ناهيك عن موقفها الواضح من قضية شعب فلسطين!
وبهذا المعنى، فإن الفيروس التاجي- كوفيد 19، ليس إلا امتحاناً عولمياً. امتحاناً سقطت فيه العولمة التي عجزت عن إنقاذ الملايين من آلامهم، والمليارات من رعبهم، وخوفهم، على حاضرهم ومستقبلهم. مستقبل العالم، إلى الدرجة التي ارتمت هي في فخاخها – أياً كان منشأ هذا الفيروس طبيعياً أم بيولوجياً – وفي هذا مؤشرات على مأزق آخر. انتكاسة أخرى، للعقل العولمي الذي يسير إلى هاويته، ليس بسبب هذا الفيروس، وحده، وإنما بسبب فيروساتها هي التي تأكل بها العالم، وآن لها أن تأكلها!
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”