fbpx

العلمانية والتحرر والمواطنة والخلاص السوري

0 301

تعقد الوضع السوري حتى نضح بمشاكل متداخلة ومتشابكة يصعب تجاوزها بشكل منفرد ومتتابع، يمكن رد غالبيتها إلى ثلاث مشاكل أو قضايا وطنية ملحة هي: قضية شعب يسعى إلى التخلص من نظام استبدادي، لا يتوانى عن استخدام أبشع وأقذر الوسائل في سبيل الحفاظ على جبروته وسلطته المافيوية. وقضية تحرر وطني من نير استعمار خارجي تعددت أطرافه وأسماؤه ومساحات سيطرتها. وقضية مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات في مواجهة قوى الأمر الواقع العنصرية والإقصائية والطائفية والقومية المتعصبة. طبعاً لن نختلف عن جذر جميع المشاكل السورية التي تعيدنا إلى طبيعة النظام الاستبدادي والأمني الحاكم، لكن ورغم الاتفاق على هذا الجذر الواحد، إلا أن طريق الخلاص السوري لم يعد بذات البساطة والسهولة التي يتصورها بعضهم، فحتى ولو شهدت الأشهر القادمة بدء المرحلة الانتقالية التي يعول عليها بعضهم؛ أعتقد أنها بعيدة المنال؛ ولو كانت بأبهى الصور المتخيلة ووفق تصور المعارضة السورية، بيد أن قدرتها على رسم طريق الخلاص السوري اليوم أقل بكثير من قدرتها على ذلك قبل ثماني سنوات.
فالمرحلة الانتقالية بتصورها الأولي عبارة عن اقتراح أو مبادرة لطوي صفحة العسكرة لصالح عملية سياسية تبني دولة سورية حقيقية، دولة مؤسسات واضحة، وسلطات منفصلة ومتكاملة تمارس كل منها دورها في الرقابة والمحاسبة والبناء تحت سقف محددات وطنية جامعة. لكننا اليوم وبعد التعقيدات التي أشرنا لها سابقا، أصبحنا بحاجة رؤية وطنية وتحررية وتقدمية كاملة ومتكاملة، تشكل ناظماً لعمل ونضال السوريين منذ الآن وحتى حل جميع المشاكل والتبعات الخطيرة التي أشرنا إليها. فتعليق الآمال على مرحلة انتقالية سياسية لا تأخذ بعين الاعتبار تعدد قوى الاحتلال الخارجي وتنامي دورها ونفوذها الداخلي، سوف يقود بلا أدنى شك إلى دولة هجينية بنظام هجين ومقولب على قياس القوى المحتلة أو الطرف المهيمن منها. كما سوف يفضي إلى دولة محاصصة طائفية وقومية، تعكس ميزان قوة المليشيات الطائفية والدينية والقومية العنصرية على أرض الواقع.
وهو ما يفرض على السوريين جهداً مضاعفاً من أجل الاتفاق على مسار الخلاص السوري الجديد، الذي ينطلق من ظروف وأوضاع سورية الراهنة كما هي، بعيداً عن التعلق بحلول قديمة كانت تعكس ظروف وأوضاع مغايرة عما نحن به اليوم. وهو ما يفرض أن يبنى مسار الخلاص السوري على ثلاث ركائز أساسية لا يستوي من دون إحداها، تعبر الركيزة الأول عن النضال من أجل بناء دولة المؤسسات الديمقراطية، والسلطات المنفصلة؛ قضائية وإعلامية وتنفيذية وتشريعية؛ وتعبر الركيزة الثانية عن نضال سوري تحرري يهدف إلى تحرير الأرض السورية من جميع القوى الخارجية ومليشياتها الداخلية المتنوعة، التي تعمل على فرض صراعات سورية/سورية ذات طابع طائفي أو عرقي أو ديني أو قومي. وأخيراً تقوم الركيزة الثالثة على نضال ثقافي وسياسي واجتماعي يهدف إلى بناء دولة علمانية تفصل الدين عن الدولة حيث تحمي الأخيرة حرية المعتقد والحريات العامة، على أساس المواطنة الكاملة والمتساوية بين جميع أبناء الوطن، وبما يضمن للجماعات حقوقها في ممارسة حقوقها الثقافية كاملة وعلى رأسها اللغة، دولة تعترف وتحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتعمل وتسعى من خلال إقرارها مبادئ العدالة والمساواة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى بناء وطن جامع لجميع أبنائه، يحترم تنوعاتهم الأثنية والقومية والعرقية ويّحول دون تحويل سورية إلى دولة محاصصة بين هذه المكونات.
لكن تواجهنا اليوم عقبتين ذاتيتين ( فضلاً عن عقبات خارجية) أمام إقرار مثل هذا البرنامج، تتمثل الأولى في معارضة المستفيدين من قوى الاحتلال الخارجية ومن التجاذبات المليشياوية الحاصلة داخل سورية له، الذين سوف يعملون بأقصى طاقة ممكنة للحيولة دون تبني برنامج تحرري سوري شامل لا يستثني أحداً، عبر التركيز على مضامين وعناوين جزئية، كفرض توازن دولي داخل سورية، أو حرف الأنظار إلى بعض حيثيات الدور الخارجي ذات التأثيرات الإيجابية على السوريين أو على شريحة منهم، مثل أعداد اللاجئين السوريين داخل تركيا، والدور الروسي والإيراني في هزيمة داعش، والدور الأمريكي العائق لاستعادة الأسد ونظامه الشرعية الإقليمية والدولية، إلى ما هناك من سلوكيات احتلالية قد يعتبرها بعضهم تقاطعات في المصالح بين السوريين المحتلين وبين قوى احتلال خارجي لا تكترث لأي من حقوق السوريين.
في حين تتمثل العقبة الثانية في شعار علمانية الدولة، الذي يواجه باتهامين باطلين الأول يصور علمانية الدولة كنقيض للدين والتدين والحق في الممارسة الدينية، وهو ما جعلنا نوضح أن على الدولة العلمانية السورية أن تكفل حقوق جميع أبنائها في ممارسة أو الامتناع عن ممارسة الشرائع الدينية، وتمنع أي طائفة أو فئة أو جماعة دينية من فرض رؤيتها وقراءتها الدينية والاجتماعية على سائر مكونات المجتمع. انطلاقاً من كون النظام العلماني نقيض كامل ورئيسي لنظام الحكم المبني على دين محدد مهما كان هذا الدين، والغرض الحقيقي من علمانية النظام تكمن في حصر الدين والتدين في إطاره الأخلاقي والثقافي والاجتماعي كحق فردي مصان من أي تدخل اجتماعي ممثل بقوى أو هيئات دينية، أو حتى تدخل سياسي ممثل بقوة الدولة ومؤسساتها.
أما الاتهام الثاني الذي يواجهه بعضهم للطرح العلماني، فهو ذاك الذي يستند إلى اعتبار نظام الأسد نظاماً علمانياً، ما يدفع إلى رفض العلمانية استناداً إلى تجربة السوريين المريرة مع نظام الأسد على مدار السنوات الماضية. التي تدحضها تصريحات ذات الشخصيات؛ الأحزاب؛ المعارضة للعلمانية انطلاقاً من علمانية نظام الأسد، التي توغل في وصفه بالنظام الطائفي العلوي في أحيان أخرى. وذلك دليل واضح على سطحية الطرحين والوسمين أي اعتباره نظاماً علمانياً أحيانا ونظاماً طائفياً أحياناً أخرى. فنظام الأسد عبارة عن عصابة يحكمها مزاج ورغبة مكوناتها بغض النظر عن الدستور، التي تستخدم شعارات علمانية أحيانا لتجنيد وأسر مكونات اجتماعية دينية تخشى هيمنة وجبروت قوى الإسلام السياسي، كما تستخدم خطاباً طائفياً في أحيان أخرى لحشد وجذب حاضنته الاجتماعية الضيقة متمثلة في أبناء الضيعة والقرية والمنطقة. إذاً لم يكن النظام الحاكم بأي يوم من أيامه نظاماً علمانياً بل هو نظام الأسد وفقط، الذي يلجأ فيه لأي وسيلة كانت كي ينجح في فرض هيمنته وسيطرته، لذا عدل الدستور السوري في دقائق معدودة، وفتح النظام الباب أمام توغل قوى دينية متعددة من مناصري النظام وداعميه، إسلاميين وغير إسلاميين. فهل يتمكن السوريين من الاتفاق على محددات الخلاص السوري في القريب العاجل، أم إننا ماضون نحو مستقبل أكثر تعقيداً وتشابكاً!!.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني