fbpx

عن الانتخابات السورية في عهد حافظ أسد وابنه

0 126

كانت انتخابات 1947 أوّل انتخابات سورية برلمانية بعد الاستقلال، حين ترافق احتدام الحملات الانتخابية مع حوادث أمنية عديدة، فلقد اندلعت في حلب مواجهات بين أنصار حزب الشعب والحزب الوطني أفضت إلى جرح 25 مواطناً، ومواجهات مسلّحة بين عائلتين في “السويداء” أدّت إلى مقتل شخص وجرح أربعة فتدخّل الجيش للحفاظ على الأمن، وتكرّرت حوادث مشابهة يوم الانتخابات في دمشق بين أنصار نفس الحزبين، وأُحرق عدد من صناديق الاقتراع، وفي حماه أسفرت الاشتباكات عن مقتل شخص وانتشر الجيش في المدينة.

رغم هذا اعتبرت نتائج الانتخابات ممثّلة للشارع السوري سيّما بعد إعادة الاقتراع في جولة الإعادة في المراكز التي أُتلفت فيها بعض الصناديق.

تتابعت الأحداث السياسية في “سوريا” بعد الاستقلال بدايةً بانقلاب “حُسني الزعيم” الذي جعل سلطة إدارة البلاد في يد الجيش، وحتّى 1953 عندما نصّب “الشيشكلي” نفسه رئيساً بموجب استفتاء نجح فيه بنسبة أكثر من 90%، وأجرى انتخابات برلمانية حصد فيها حزبه “حزب “التحرّر العربي” على 72 مقعداً من أصل 82، مع أنّ نسبة المشاركة لم تتجاوز أكثر من 16% من مجموع الناخبين، بسبب المقاطعة الشعبية التي سبّبها “القمع”.

أمّا سنة 1954 فقد حصلت الانتخابات التشريعية السورية على نسبة مشاركة عالية، بسبب إشراف حكومة محايدة هي حكومة “سعيد الغزّي” التي تعيّنت بعد حراك كبير من القوى الديمقراطية، وبسبب تفعيل الاقتراع السرّي بعيداً عن أعين الأجهزة التنفيذية والأمن، فزاد الإقبال والمشاركة، ما أدّى إلى تغيير تركيبة المجلس النيابي كثيراً، كما بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية سنة 1961 أكثر من 84%، وهي الأعلى بين الانتخابات التشريعية السورية، بسبب فضّ يد الأجهزة الأمنية، وعودة الأحزاب إلى الحياة السياسية بعد الانفصال عن “مصر”.

لكن بعد الثامن من آذار 1963، إثر الانقلاب العسكري الذي قاده حزب البعث العربي الاشتراكي، أُعيد إعلان حالة الطوارئ بموجب القانون رقم 51 لعام 1962، وأُعلنت الأحكام العرفية بالأمر العسكري رقم 2، وتعطّلت الحياة السياسية والحزبية في “سوريا”، وبعد صراعات طويلة على السلطة بين العسكريين البعثيين وغيرهم، استطاع حافظ أسد سنة 1971 الاستيلاء على السلطة، فأصبح رئيساً لسوريا باستفتاء عامّ حصد فيه 99.2% من الأصوات، ثمّ أصدر الدستور السوري الدائم في 13/3/1973، كما أصدر قانون قواعد الاستفتاء السوري بالمرسوم التشريعي 8 لعام 1973، وقانون الانتخابات العامّة بالمرسوم التشريعي 26 لعام 1973.

ظلّ قانون الطوارئ في سوريا سارياً نحو “خمسين عاماً” فلم يتمّ إلغاؤه حتّى 21 نيسان 2011 بسبب اندلاع الثورة السورية[1]، لكن ما تمّ عملياً هو استبدال هذا القانون بقانون مكافحة الإرهاب الصادر بالمرسوم 19 في 2/7/2012، واستبدال محكمة أمن الدولة التي ألغيت في 21/4/2011 بالمرسوم التشريعي 53، بمحكمة قضايا الإرهاب التي أحدثت بالقانون رقم 22 في 26/7/2012.

منذ صدور قانون الطوارئ أصبح النفوذ الأمني في سوريا خطيراً جدّاً، خارجاً عن السيطرة وغير محكوم برقابة تشريعية أو قضائية ولا تنفيذية، فلا توجد قوانين تحكم عمل الأجهزة الأمنية في سوريا أو تضبط علاقتها ببعضها أو بالمجتمع أو بالقضاء، وقد حرص النظام على عدم وجود هذه الآلية القانونية ليتحكّم وحده بعمل الأجهزة، وليمنحها جميعاً السلطة الكاملة في التدخّل عند أيّة حالة إحساس بخطر أمني، ولم يحدّد اختصاصات أو سلطات أو آليات تعاون بين هذه الأجهزة.

لقد ركّز “البعث” بعد انقلاب 1963 سلطة الدولة في يديه، وأبعد شتّى المنافسين السياسيين، وتعرّض للعزلة بسبب عداء قطاعات واسعة من الشعب فضّلت قوى سياسية أخرى، كما عمل على حرمان الطبقة العليا التقليدية من السلطة السياسية، ثمّ اعتمد حافظ أسد بعد 1971 على حكم الأجهزة الأمنية السافر، الأجهزة التي أصبحت ممهورةً بتركيبتها الطائفية أو بولائها المطلق، وصارت هي المشرف الحقيقي على الحياة الداخلية للحزب وهي القائد الفعلي للدولة والمجتمع تحت يافطة قيادة الحزب، ومنذ ذلك ارتبط الارتقاء السياسي وتراكُم الثروة بالتقرّب من أجهزة الاستخبارات والقيادات العسكرية.

مارست الأجهزة الأمنية في “سوريا” مختلف أشكال الانتهاكات الحقوقية والقانونية، وقمعت الحرّيات، وأسندت لنفسها دور الوصاية الأمنية على المجتمع، وتدخّلت في ممارسة الحقوق السياسية كتولّي الوظائف والمناصب العامّة، وفي الانتخابات طبعاً، وفي تشكيل الأحزاب والنقابات، وأصبح هذا التدخّل سبباً أساسياً لاضمحلال الديمقراطية وغياب العدالة، لأنّه كان تدخّلاً من أجل تكريس السلطة الأحادية بعيداً عن المنافسة السياسية، بل وعدم السماح بوجود هذه المنافسة أصلاً، من خلال السيطرة على البنية الأمنية التي تشرف على العمل السياسي والانتخابات، وبالطبع أدّى ذلك إلى انعدام وجود بيئة آمنة تحمي “العملية الانتخابية” وتحقّق المعايير المطلوبة لإجرائها ونجاحها، وإنّ البيئة الآمنة هي حجر الزاوية الأساسي لأي حلّ سياسي لمستقبل سوريا وشرط أساسي لا غنى عنه لإجراء انتخابات نزيهة وشرعية وشاملة، وكذلك أي استفتاء شعبي على الدستور في المستقبل.

إنّ ما سُمح به من أحزاب أخرى في “سوريا” غير حزب البعث أو مرشّحين مُستقلين في الانتخابات لم يكن سوى محاولة لإظهار التعدّدية السياسية والشعبية، لكن بالنتيجة لم يمكن لأيّ حزب غير البعث الوصول إلى وزارة سيادية أو مهمّة، ولا لمواطن لا ينتمي إليه الحصول على وظيفة مدنية مُعتبرة، وبالتأكيد لا يمكن تولّي القضاء أو التطوّع في الجيش أو الشرطة وأجهزة الأمن، وكلّ الانتخابات على مستوى البلديات ومجلس الشعب والانتخابات الرئاسية تسوسها أجهزة الأمن التي تدين بالولاء المطلق للسلطة الحاكمة، الولاء الذي يُجبر معظم السوريين على المشاركة في استفتاء الرئاسة (الذي أسماه النظام “بيعة”)، والتصويت بالموافقة، وإلّا فالملاحقة أو الاعتقال مصير من لا يفعل، ولقد دفع الناشط الحقوقي “عمر الإدلبي” مثالاً، سنةً من عمره معتقلاً بتهمة التحريض على عدم انتخاب “حافظ أسد”!.

حين قرّر أسد الابن إجراء انتخابات رئاسية بدلاً عن الاستفتاء وفتح باب الترشّح لها في أيّار 2014، كان السوريون يعرفون النتيجة مسبقاً، فقد سُمح أخيراً بترشّح “ماهر حجّار” و”حسّان النوري”، اللذين كانا يروّجان لمنافسهما أسد في لقاءاتهما التلفزيونية خلال “العملية الانتخابية”!، ولم يتمكّنا من الترشّح إلّا بحصول كلّ منهما على تزكية 35 عضواً من أعضاء مجلس الشعب بعد إعطاء الإيعاز الأمني للمجلس بقبول ذلك، كي يظهر أنّ في سوريا انتخابات ديمقراطية، بل إنّ بعض الصفحات الموالية وقت ذاك تبنّت مقولةً نسبتها للمرشّح الحجّار: (ماهر الحجار مرشح الحزب الشيوعي للانتخابات الرئاسية، يعلن.. سأنتخب بشار الأسد)!، بل إنّ المرشّح الآخر “حسان النوري” في مقابلة معه في التلفزيون السوري شكر “الرئيس بشّار الأسد” والقيادة السياسية الحالية، وقال: ليس هدفي كُرسي الرئاسة ولا الانتخابات، وكنت سأعالج الوضع السوري بنفس الطريقة الحكيمة التي اتّبعتها القيادة السياسية!.

بعد آخر (انتخابات) تشريعية في “سوريا”، قام أعضاء مجلس الشعب في أوّل جلسة لهم بتاريخ 10/8/2020، بانتخاب “حمّودة صبّاغ” رئيساً للمجلس، و”محمد أكرم العجلاني” نائباً للرئيس، و”ميساء الصالح” لأمانة سرّ المجلس، و”سلّوم السلّوم” “محمد الأبرش” و”فايزة العذبة” كمراقبين للمجلس، ولم يكن قد ترشّح لهذه المناصب أحد من أعضاء المجلس على الإطلاق سوى هؤلاء المذكورين، وكيف يجرؤ أحد على ترشيح نفسه وقد وضعت الأسماء مُسبقاً ويعلمها أعضاء المجلس جميعاً قبل انعقاد الجلسة؟.

تقول النكتة: كان حافظ أسد يتحدّث إلى الشعب السوري في إحدى المناسبات البعثية، قال: أنا أعطيكم حرّية التعبير.. قولوا ما تشاؤون بكلّ حرّية، الحرّية للجميع، حتّى الذين يقولون أشياء ضدّي سأمنحهم حرّية الاختفاء.


[1] -صدرت في نيسان 2011 ثلاثة مراسيم تشريعية،161 لإنهاء (وليس إلغاء) حالة الطوارئ في سوريا، والمرسوم التشريعي 53 لإلغاء محكمة أمن الدولة، والمرسوم التشريعي 54 لتنظيم حقّ التظاهر السلمي للمواطنين السوريين.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني