fbpx

سوريا: التخلص من ثقافة العنف بعد الحرب

0 258

التخلص من ثقافة العنف بعد الحروب هي واحدة من أصعب المهمات التي واجهت الشعوب عبر التاريخ، خصوصاً عندما يطول زمن الحرب، وما يعنيه ذلك من ولادة جيل، يغادر طفولته وسط دوامة الصراعات، ما يؤثر على البنية النفسية في تكوين هذا الجيل. فالقوانين التي تحكم الحرب، ليست هي القوانين التي تحكم السلم، كذلك الأمر في ثقافة ما بعد الحرب، والتي هي لاشك ثقافة لا تنتمي لزمن الحرب، إذ لم يشهد التاريخ بعد على قيام حرب نظيفة، وإذا كانت قسوة الحرب السورية لا تختلف عن غيرها من الحروب، فإن إمكانية إعادة بناء مجتمع قادر على تجاوز ثقافة العنف في سوريا هي مسألة ممكنة وواقعية، وذلك من أجل إعادة بناء وتكوين سوريا الجديدة، بمختلف الأطياف التي تضمها هذه الجغرافيا.
التداخل المفيد:
التخلص من نزعة الانتقام يستوجب أمرين، الأول هو الجانب المادي والذي يتمثل في التخلص من أداة القتل، وما يعنيه ذلك السيطرة على السلاح، وأما الثاني فهو يتمثل في الجانب النظري بحيث تتجه البلاد نحو إقرار قوانين صارمة تُجرّم فكرة الانتقام، تمهيداً لإرساء ثقافة جديدة، تضع فكرة دولة القانون فوق كل الاعتبارات، خصوصاً وأن هذه الفكرة هي الغائب الأكبر منذ سيطرة النظام الحاكم في دمشق على البلاد، والذي أعاد سوريا إلى عصر الغاب وأكثر من ذلك.
الحديث عن إرساء ثقافة جديدة يعني أولاً إرساء ثقافة القانون في العقول، وهي مهمة ليست معقدة، فعند إدراك الأفراد أو الجماعات أن الحلول تكمن تحت سقف القانون، ينساق الجميع طواعية نحو هذا الحل، خصوصاً وأن المجتمع السوري بات منهكاً من مخلفات هذه الحرب، والتي سيمتد أثرها للأجيال القادمة، لكن مسألة ضبط الآثار النفسية هي النقطة الجوهرية خلال هذه الفترة والسنوات القادمة، خصوصاً أن سوريا تعيش وحدة جغرافية وإثنية واحدة، بمعنى أن هناك تداخل مجتمعي، فالمدن السورية على اختلافها تحمل نسيجاً يضم كامل الأطياف الموجودة على الأرض السورية، ما يمكن أن نرى فيه ذلك التداخل المفيد، الذي يتيح لكل الوجوه أن تلتقي بعضها بعضاً، دون وجود حواجز وكانتونات ذات طابع مذهبي أو ديني أو غيره.
مؤيد ومعارض:
الانتقال إلى سوريا الجديدة يستوجب غياب مفردات سامة متوفرة في الساحة السورية، تتمثل في تقسيم المجتمع السوري إلى مؤيد ومعارض، ما يعني أننا أمام ضرورة تجاوز ما حدث في العراق وليبيا، فمع رحيل النظام يتوجب عدم الانزلاق إلى فخ الانتقام، من خلال إعادة تكوين دولة جديدة على قاعدة المؤيد السابق والمعارض وغير ذلك، ففي عالم السياسة المتحرك ليس ثمة موال سابق وثائر حالي، أمام حقبة انتقالية تستوجب إنهاء لغة الانتقام، وإنهاء فكرة المحاسبة الفردية التي لا تستند إلى أي أساس قانوني، لأن سوريا الجديدة بلا قانون، لن تكون بعيدة عن سوريا نظام الأسد، التي ضاعت فيها الحقوق، ونشأت فيها طبقات فاسدة، صنعت قوانينها الخاصة وعالمها الخاص الذي ضاعت فيه الحريات والحقوق وأوصل البلاد إلى الهاوية.
ثقافة العنف:
في النهاية تبقى ثقافة العنف في أي بلد هي قرار سياسي بامتياز، فالدولة عندما تتحول إلى أداة للأفراد، تدخل في عالم أشباه الدول، والتي تنساق رويداً رويداً إلى نظام استبدادي جديد، ولكن عندما تتجه الدولة إلى إرساء نظام القانون واحترامه، فهي تذهب إلى حقبة من الحريات والتي من خلالها يمكن أن تقفز البلاد فوق كل الجراح، وتتمكن من تحويل الواقع المرّ إلى نقطة مضيئة قادرة على اجتذاب كل ما هو مضيء.
نحن أمام تجربتين في العهد القريب، الأولى تجربة رواندا والحرب الأهلية القاسية التي خلفت 800 ألف قتيل، حيث نهضت هذه الدولة، وباتت في أعلى قمة الهرم الاقتصادي في أفريقيا، ما جعل منها قبلة للمستثمرين والسياح في العالم، وأما الثانية في لبنان، فهي لم تكد تستقر نسبياً في حقبة الرئيس الحريري الذي أعاد بناء البلاد حتى انتقلت تحت هيمنة حزب الله والذي حوّل الدولة اللبنانية إلى كيان فاشل منهار اقتصادياً ويعيش أسوأ أزمة اجتماعية تهدده بالعودة إلى سنوات الحرب، والفارق بين المسألتين، هو الموقف السياسي والإدارة السياسية، فبينما نجحت رواندا بالسيطرة على الانقسام العرقي من خلال دولة القانون، بمقابل ذلك فشل لبنان بالخروج من الدوامة الطائفية (ليس نتيجة الإرادة الشعبية) ولكن نتيجة القرار السياسي الذي عبث بمستقبل وواقع لبنان.
في سوريا ستبقى الإدارة الناجحة هي القادرة على إغلاق كامل الملفات المعقدة وأهمها ملفات العنف والانتقام والسلاح والحقوق وغير ذلك.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني