fbpx

لكلِّ مقامٍ شكل لحية

0 192

لم يكن التَّديُّنُ الشَّكلانيُّ ولا الجَوهَريُّ مُمَيِّزَاً لطبيعةِ وانتماءِ أسرتي، فوالدي لم يَقرب الصلاةَ حتى تَجاوزَ الخمسينَ من عمره، عندما أَيقَنَ أن اللهَ اقتصَّ له من العصابةِ التي نَصَبتْ عليه وسَلَخَت أموالَه منه دون وجهِ حقٍّ، سوى أن شخوصَها أغْوَوْهُ بلَبُوس الشيوخِ الملتحين المعممين، فوثِقَ بهم، وهو أمِّيٌّ، مؤمنٌ، يجهل ألاعيبَ من يتستَّرون بالدين واللحية، والعمامة. ولم أره يوماً مطلقاً شاربه أو لحيته حتى في مرضه، فشاربُه كان ضيقاً، مبتوراً، يشبه شاربَ “هتلر”، قد يضايقه أحياناً، فيزيله تماماً، أما ذقنه فقد كان أمرداً إلا من بعض شعيرات يداوم على حلاقتها كلما طالت، إذ كانت حلاقة اللحية يومياً، قانوناً يُطبَّق على رجال العائلة، وتمارسه كل العوائل التي تشاركنا في حيِّنا آنذاك.

أما والدتي المرفهة، مدللة جدتي، فما عرفت إلَّا الإنجاب، وطاعة أبي وتلبية حاجاته، إذ لم أرها تقف على سجادة الصلاة، إلا بعد وفاة والدي، وانكسارها الأنثوي، ولم تضع نقاباً تخفي جمالها المثير، على العكس، ضفائرها المحنَّاة طالما تدلَّت على كتفيها، متسللة من تحت وشاحها الملون، المُرخَى على رأسها بدلال، لذلك نما فينا تصوُّرٌ أن الصلاةَ وكل الطقوسِ التي ترافقها من الفروض والسنن لا يقوم بها إلا كبار السنِّ، وتمثلهم في بيتنا جدَّتي، رغم أننا كنا بين حين وآخر نمدُّ السجادة ونقف عليها خاشعين، نختبر قدراتنا على أداء هذه العملية المقدسة.

لم يمنع ذلك من أن يكون لإخوتي توجه ديني ملتزم بعد خروجهم عن طوق العائلة والحي والانتقال إلى محافظات أخرى للدراسة الجامعية، إذ لم يتركوا فرضاً إلا قضوه ولا سنة إلا اتبعوها، وانكبوا على كتب الفقه والتشريع رغم أن أغلبهم توجه إلى العلم والطب، لكنني لم أر واحداً منهم مطلقاً لحيته تحت أي ظرف، وأخواتي ارتدين الحجاب والتزمن بالصلاة بعد بلوغهن الرشد مع معارضة والدي للأمر خاصة بعد أحداث الثمانينيات في سورية ومحاربة النظام السوري لكل مظاهر الإسلام آنذاك.

في حينا الذي يشبه أحياء المدينة، كانت البيوت تشدُّ أزر بعضها بعضاً، لتشكل بيتاً واحداً متعدد الأبواب المفتوحة على مصاريعها، إذ لا غريب في الحي، لا غريب في المدينة، فالحي أسرة واحدة عزاؤهم واحد ومسراتهم مشتركة، نشأتهم واحدة، وقناعاتهم واحدة، فلم يطلق رجل واحد لحيته، ولم تضع امرأة نقاباً، وكل من نراه يفعل ذلك نوقن أنه غريب.

تشعبت الحياة، فتداخلت الأحياء والمدن وانفتحت على العالم بشراهة، وبتنا نرى اللحى والنقب بكثرة، وصار لكل بيت في الحي خصوصية، وعمت الكراهية والطمع، وأُغلقت أبوابُ بيوتِ الحيِّ بالرتاج والقفل.

النساء في حيِّنا كنَّ يتباهين برجالهن الحليقين ويتفاخرن بأنهن يسهرن على نظافتهم باستمرار، فاللحية لم تكن يوماً دليل رجولة ولا جمال، ثم تبدلت الحال، وانقلبت القواعد رأساً على عقب، فأصبحت اللحية الكثة المهملة عنوان تحضر لدى الكثيرين، تقليداً لبعض المفكرين والمنظرين الماركسيين، أو مجاراة للموضة، أو اتباعاً للسنة النبوية، بعد أن انخرط الكثير في ظاهرة لم تكن موجودة في حينا قبلاً، وهي ظاهرة التدين.

إلا أن الشباب الذين “تديَّنوا” كانوا يجبرون على حلق اللحية، وربما يجرَّمون حتى من إقامة الصلاة حينما كانوا يُساقون إلى الخدمة العسكرية، واستمر الأمر كذلك حتى قامت الثورة السورية، حينها تمردت اللحية على الجميع وراجت في كل مكان، فالثوار أطلقوا لحاهم، إذ لم يكن لديهم الوقت لحلاقتها وهم الساهرون الثائرون، ثم تداخلت فيما بينهم التنظيمات المتأسلمة، ففرضت اللحية قانوناً، واقتصت ممن يظلمها فيزيلها أو يحددها.

أما في صفوف الجيش النظامي التابع للسلطة، فقد تغيرت القوانين أيضاً وتمردت اللحية، فأبدعوا في أشكال إطلاقها وتشذيبها، فإما طويلة متدلية تفترش مقدمة الصدر، وإما رفيعة متهدلة على شكل سيف سمهري، أو ذات نصلين مفترقين، وشارك في ترويج هذه الصرعة القُوَّاد الذين كانوا يثيرون الرعب في المناطق التي يسيطرون عليها خلال حملاتهم الدموية، إذ يقومون بنشر مقاطع من الفيديوهات التي يبرزون فيها قوتهم بشارب كثٍّ، ولحية كثيفة طويلة تخفي الكثير من معالم وجوههم فلا تظهر إلا نظراتهم الحاقدة التي تطفح بالشراسة والشر، مؤكدين بها مقولة: “الأسد أو نحرق البلد”.

حيُّنا لم يعد كما كان، ورجاله آثروا الإبقاء على اللحية، إذ اكتشفوا أخيراً أنها وسيلتهم في الدخول إلى كلِّ العوالم المتقلبة الرائجة، فبها سيكون حكيماً وقوراً راجح العقل، في المجتمعات المتأسلمة، حتى لو لم يكن “يفك الخط”، وبها يؤكد أنه مفكر ذو ثقافة، وعلم في المجتمعات الفكرية، التي تتخذ من فلاسفة التاريخ الملتحين قدوة لهم، ثم إن اللحية سيدة الموضة في كبريات المؤسسات التي تروج للعطور والثياب والجمال.

لذلك لم تعد اللحية ميزة لشريحة ما، أو حزب ما، ففي كل نادٍ تجدها متصدرة المشهد، ما سهل على المتلونين أن يتوزعوا في كل النوادي، وأصبح لكل مقام شكلٌ للِّحية.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني