كهرطيس الثورة
يُعرِّف مُعجم اللغة العربية المعاصر “الكهرطيسيَّة” بأنّها: فرع من الكهربائيَّة، يعنى بدراسة الخاصَّة المغناطيسيَّة للتَّيَّارات الكهربائيَّة وتطبيقاتها.
تتكون جميع الكائنات في الكون من وحدات تدعى بالذرات، تتكون هذه الذرات من إلكترونات ونيوترونات وبروتونات، تدور الإلكترونات حول نواة الذرة التي تحتوي على النيوترونات والبروتونات فتشكل الإلكترونات الدوارة قوى مغناطيسية صغيرة، وتدور العديد من الإلكترونات في بعض الأحيان في جسم ما في نفس الاتجاه فتتجمع كل القوى المغناطيسية الصغيرة من الإلكترونات لتجعل الجسم مغناطيساً واحداً كبيراً.
وأعتقد أن الجميع يعرف هذه “الظاهرة” إمّا عن عِلمٍ وإمّا عن تجربة، ومن عرفها عن عِلم يستطيع فهمها وإدارتها واستغلالها وتوظيفها أكثر ممن عرفها من خلال التجربة، وتعمل وفق قانون الاستقطاب القائم على “الجذب والنبذ” حيث تجذب الأقطاب الشِّمالية “السالبة “القطبين الجنوبيين “الموجبة” للمغناطيسات الأخرى لكنها تصد “تنفر” الأقطاب الشِّمالية الأخرى، وبالمثل تجذب الأقطاب الجنوبية الأقطاب الشِّمالية لكنها تصد “تنفر” الأقطاب الجنوبية الأخرى، وكان من تطبيقاتها “البوصلة” والمحركات الكهربائيّة، وتوليد الطاقة، والمكابح الكهرطيسيّة، ويعتبر التصوير بالرنين المغناطيسي من أعظم تطبيقاتها في تشخيص الأمراض.
والعمل السياسي والثوري باعتبارهما حركتان شعبيّتان، تعبِّران عن قوة هذا الشعب وعن اتجاهاته الفكريّة والسياسيّة والثوريّة، ومن طبيعتها الاختلاف والتعدّد والتنوّع، وهي أشبه بالتيارات “المغناطيسيّة” ويُمكن القول أنّ حركتهما محكومة بنفس قوانين الفيزياء والحركة وخاصة قوانين “الائتلاف والاختلاف” فما ائتلف منها انجذب وتآلف، وما اختلف منها “نفر” وتَصَارَع.
وتعترض السوريين ثائرين ومعارضين جملة من الإشكاليات في حركتهم في مواجهة النظام، ويمكن اختصارها بثلاث، إشكالية النظريّة، وإشكالية التطبيق، وإشكالية الغايات:
فالنظريّة تُعتبر الأرضية الفكريّة للمشروع السياسي وهي مجموعة المبادئ والقواعد التأصيليّة والغايات المنشودة التي يتم العمل على تحقيقيها عبر أدوات التغيير، والتي تختلف من مشروع لآخر، ومن حزب لحزب آخر لأنها تعبّر عن العقيدة التي يتبناها الحزب أو الجماعة، ولو استعرضنا الانتماءات الفكريّة لجميع “المعارضين” السوريين لوجدناها متنوِّعة وتكاد تكون محصورة بما يلي : “شيوعي – اشتراكي – قومي – إسلامي – ديموقراطي ليبرالي” وأنّ غالبيتهم هم أبناء وأحفاد وورثة عدد من الأحزاب السياسيّة السوريّة التاريخيّة، والتي بعد انقلاب حافظ أسد سنة 1970 إمّا ارتضى الدخول في حظيرته المعروفة بالجبهة الوطنيّة التقدّميّة وإما رفضت ذلك فكان مصيرها الإلغاء وملاحقة واعتقال وقتل منتسبيها.
أما إشكالية الغايات فهي محل اختلاف فالثورة انقلاب جذري وبناء نظام جديد، بينما تكون غايات المعارضة في العموم محصورة بالتغيير التدريجي أو بالإصلاح الداخلي، وغالباً ما تنتهي غاياتها عند شراكتها في إدارة السلطة، وهو ما ولّد الصراع بين قوى الثورة الحقيقيّة الرافضة لمبدأ التفاوض وبين قوى المعارضة التي تدافع عنه متوسِلة بالقوى الدوليّة.
والاختلاف بين النظريّات والغايّات أدّى بطبيعة الحال إلى إشكالية “التطبيق” أو التنفيذ، فوسائل المعارضة وأدواتها تكاد تكون محصورة بالتفاوض، والتوسّل بالمجتمع الدولي كقوة ضاغطة لتحقيق التغيير السياسي، بينما وسائل وأدوات الثورة المشروعة لا حصر لها، فكل الوسائل مشروعة “السلميّة والمسلّحة”، وقد نجحت المعارضة بالتعاون مع بعض القوى الدوليّة إلى تغيير العقيدة الثوريّة لبعض الفصائل من خلال توريطها بالتوقيع على عدة تعهدات وتفاهمات، والدخول في لجان وهيئات التفاوض مع النظام الذي حدّدت بعض القوى الدوليّة وعبر الأمم المتحدّة أسسه وآلياته وأهدافه و اعتبار أنّ ما يجري هو حرب أهليّة والجميع مسؤول عنها على قدم المساواة، وأن الطريق الوحيد للخلاص هو التفاوض وإسقاط الخيار المسلّح، والنتيجة النهائية هو الوصول إلى حكومة وحدة وطنيّة بين المعارضة والنظام والتي عرّفها القرار 2254 لسنة 2015 بأنّها “هيئة حكم ذات مصداقيّة غير طائفيّة”، ومن أسباب هذه الإشكالية هو ضعف أو إضعاف الفصائل الثورية، الذي أدى إلى انقسامها وشرذمتها واختلافها ودخولها في صراعات بينيّة. والارتباط الخارجي لأطياف المعارضة ممّا ولّد إشكالية أخطر من كلّ ما ذُكر وهي إشكالية “القيادة والأداء”، حيث استولت فئات من هذه المعارضة مُنشقّة أو مُتفرِّعة عن أحزابها الأمّ المنضويّة تحت الجبهة الوطنيّة التقدّميّة، أو نأت بنفسها عن ممارساتها، لكّنها لم تتخلَّ عن انتمائها، ولم تقطع علاقاتها مع رفاقها وقادتها السابقين أو اللاحقين، رُغم تورّط هذه الأحزاب في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانيّة عبر أذرعها العسكريّة التي شكّلتها مع بداية الثورة للقتال إلى جانب عصابات الأسد، فنراهم يفرحون لفرحهم فيباركون انتصاراتهم ، ويحزنون لحزنهم ويُعزّون بفقدان أو رحيل أفراد ميليشياتهم أو قاداتها ، وحال هذه المعارضة لا يستقيم مع مفهوم الثورة، فمن لا يستطيع الانتصار على نفسه، ومن لا يستطيع التخلّص من موروثه السياسي الفاشل، أو حاضر حزبه الإجرامي ومن لا يستطيع التجرّد، أو الحياديّة على الأقل في التعامل مع الثورة، لا يمكن الثقة به، فهو في عيون الثائرين إمّا منافق، وإمّا عدوّ خفيّ يمارس التقيّة في اقذر صورها، بينما نجد على صعيد الثورة ارتفاع منسوب القطيعة مع كل من بقي مع النظام على قاعدة أنّ الثورة ولاء وبراء، ولاء لقيّمها ومبادئها وبراءة من أعدائها الداخليّين والخارجيّين حتى لو كانوا أولوا قربى عصبيّة أو رحميّة، أو نسبيّة، أو عشائريّة أو حزبيّة، أو عقائديّة أو مذهبيّة أو طائفيّة، أو غيرها من علاقات القربى والحميميّة.
وهذا التجانس المفقود يُعتبر من أهمّ الإشكاليات المستعصية التي تحول دون تحقيق أي تقارب بينها بل على العكس من ذلك فإن هذه الإشكالية هي سبب طبيعي للنفور بين قوى الثورة وبين قوى المعارضة لاختلاف التوجّه والشّدّة، الذي أدّى إلى التحزّب والارتهان وبالتالي الدخول على خط الصراعات الدوليّة والإقليمية بين الدول المتصارعة في سورية، ولم يعد يخفَ هذا التحزّب والارتهان على أحد، وقد كشفت التحرّكات التركيّة الأخيرة جملة من الحقائق ومنه حقيقة الثورة وأهلها، وحقيقة هذه المعارضة وحلفائها، وحقيقة بعض الفصائل المرتبطة مع مشروع المعارضة، ومدى قدرتها على التعامل مع المتغيّرات الدوليّة والتصدّي للآثار الكارثيّة التي ستطال الثورة ومصير الأحرار من جرّاء هذه المتغيّرات، فكان حال قوى المعارضة وقوى الثورة وحال الحاضنة الثوريّة حال “مغناطيسين” بعد تحطيمهما وتناثر شظاياهما في وسط دوليّ مُمغنط تتجاذبه عدة قوى متنافرة ومختلفة الاتجاه والشِّدّة، شديدة الاستقطاب والنفور، ما أدى إلى اختلال حركة قوى المعارضة و قوى الثورة الذي تجلّى في الأحداث الأخيرة التي اشتدّت فيها قوة الثورة الحقيقية بعد رفدها بالقوة الشعبيّة التي تجلّت بالحراك الشعبي، فكبُرَ عزم الثوار، وتحوّلت الثورة إلى قوة جذب فائقة، ما أدّى إلى استقطاب ما يشبهها في الاتجاه والشدّة، ونَبذ ما تشظّى عنها وفقد قوته فكان مصيره الخروج خارج فلكها لتستقطِبه القوى الخارجيّة.
وكان ما تعرّض له السيد سالم المسلط رئيس الائتلاف الوطني “مع تحفّظنا” على ضربه بعد مغادرته مكان التظاهرة ووصوله إلى السيارة التي سيغادر على متنها، هو نتيجة طبيعيّة لهذا الحال الذي من آثاره الطبيعيّة اندثار الشظايا الصغيرة وضياعها في هذه المعمعة، وحدوث التصادم بين “الأشباه” التي استقطبتها قوة المركز، وخروج من “نفَر” ودار في فلك خارجي عن الثورة.
وأخيراً: فليعلم الجميع بأن الغضب الثوري هو وقود الثورة وقوتها الكامنة وهو غضب “فيها ولها”، وكلّما زاد الضغط وطال الوقت كلّما تصاعد هذا الغضب ليبلغ درجة الغليان ثم الانفجار، وبأنّه ليس غضباً شخصيّاً، لذا فهو لا يخضع لقواعد التصويب أو التأثيم العاديّة، وعليه فإنّ كل غضب في غير هذا السياق فالثورة براء منه.
وأنّه ومن الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها من يظنّ أنه استطاع إسقاط خيار الحلّ العسكري عن الثورة في الدفاع عن أهلها أو في إسقاط النظام، فسلاح الثورة ليس سلاح الفصائل فحسب، وإنّما السلاح الشخصيّ الذي يملكُه كل ثائر، وهو المعوّل عليه في انتصار الثورة بعد الله تعالى.
وأنّ ما جرى هو نتيجة الهوة الساحقة بين الثورة، وبين المتصدّرين للقيادة، والتي غَلَبِ عليهم همّهّم إرضاء المجتمع الدوليّ، على حساب ثوابت الثورة ومطالب الأحرار، وهمّهّم بناء أجسام القيادة على أساس المحسوبيّة، على حساب الولاء للثورة، فلاهم بلغوا رضى المجتمع الدوليّ وإقناعه بصلاحهم بديلا للأسد وتمكينهم من استرداد الدولة السوريّة منه، ولا هم بلغوا رِضى الحاضنة الثوريّة، حيث كرّست هذه الممارسات قناعة لدى هذه الحاضنة مفادها استحالة تغيير هذه القيادة لنهجها وسياستها بسبب الارتباط الخارجي، أو ضعفها الذي سمح بتمرير الوقت الكافي للمجتمع الدولي لإعادة إنتاج النظام وتأهيل المجرم بشار أسد، على حساب تضحيات الشعب السوري، والانتهازيّة التي تمارسها بعض مراكز القوى التي تسلّطت على القرار، وخاصّةً بعد أن أصبح الائتلاف الوطني جزءاً صغيراً منها بعد ضمّ منصات المعارضة الأخرى ومن ثم إشراكها في تشكيل هيئة التفاوض واللجنة الدستورية.
وعلى المجتمع الدوليّ وخاصّة الدول الفاعلة في الملف السوري أن تقرأ الانتفاضة الأخيرة للأحرار بشكل صحيح، وألّا تقع في سوء التقدير، وأن تعيد النظر في مقارباتها، وليوقِن الجميع بأنّها ثورة ثانيّة، لا مكان للمتسلّقين ولا الانتهازيين، ولا أصحاب الحلول الوسط بين صفوفها، وعلى جميع السوريين “معارضة وثورة” إعادة تقييم ما سبق من تجارب، على كافة المستويات، وإلّا ستكون المواجهة الحتميّة دمويّة لا قدّر الله.
المحامي عبد الناصر حوشان