fbpx

الناسِكُ والقَوَّاد

0 262

زعموا أنَّ ناسكاً كان يجري عليه من بيت رجلٍ من التجار رِزقٌ من السَّوِيق والسمن والعسل، فكان يُبقي من ذلك السمن والعسل، فيجعلُ الباقي منها في جرَّة ثم يعلِّقها في بيته، فبينما الناسِك ذات يوم مستلقٍ على ظهره والجرَّةُ فوق رأسه إذ نظر إليها فذكر غَلاء السمن والعسل، فقال: أنا بائعٌ ما في هذه الجرَّة بدينارٍ، فأشتري بالدينار عشرة أعنُز، فيحملن ويلدن لستة أشهر، ثم حزر على هذا الحساب لخمس سنين، فوجد ذلك أكثر من أربعمائة عنْز، ثم أبيعها فأشتري بأثمانها مائة من البقر، بكلِّ أربعة أعنز ثوراً، وأصيب بَذراً فأزرع على الثيران، فلا يأتي عليَّ خمسُ سنين إلَّا وقد أصبت منها ومن الزرع مالاً كثيراً، فأبني بيتاً فاخراً، وأشتري عبيداً وإماءً ورياشاً ومتاعاً، فإذا فرغتُ من ذلك تزوَّجت امرأةً جميلةً ذات حسَب، فإذا دخلت بها أحبلتها، ثم تلد ابناً سويّاً مباركاً فأسمِّيه “مامه” وأؤدَّبه أدباً حسناً، وأشتدُّ عليه في الأدب، فإن لم يقبل الأدب منِّي ضربته بهذه العصا هكذا، ورفع العصا يُشير بها فأصابت الجرَّة فانكسرت، وانصبَّ السمنُ والعسل على رأسه ولحيته. انتهى الاقتباس من كتاب كليلة ودمنة.

حال هذا الناسِك يذكرنا بأحوال كثيرٍ من “نُسّاك” المُعارضة، الذين مازالوا يرون أنّ الحلّ مع هذا النظام هو بالموعظة الحسنة والقول الليّن، رغم مضي اثنا عشرة سنة من القتل والاعتقال التعسفي والاخفاء القسري والاغتصاب والتدمير والتهجير القسري، والتغيير الديموغرافي والعبث في التركيبة البنيّوية للمجتمع السوري، وبلوغ الحقد الطائفي درجة اللاعودة الذي مارسه ويمارسه النظام والأغلبية العظمى من الطائفة النصيريّة، ولم يكتفوا بذلك وإنّما نقلوا عدواها إلى باقي الأقليّات السوريّة المحسوبة على الطوائف ” المُسالِمة والمُتسامحة “.

ففي السنين الأولى من عمر الثورة ارتكبت ميليشيات هذه الطوائف أكثر من خمسين مجزرة بحقّ أهل السُنّة، وكان أشهرها مجازر أحياء حمص ومجازر تلكلخ ومجزرة الحولة وعقرب والتريمسة والقُبير والهوّات واللطامنة وكفرزيتا، وبانياس والبيضة وجرائم الإبادة في “حيّ التضامن” والغوطة وداريّا واليرموك و…. الآلاف منها، هذه المجازر لم تكن أثناء معارك مسلّحة أو خلال اشتباكات وإنّما كانت ذات طبيعة ودوافع طائفيّة محضة، بُقرِت فيها بطون الحوامل، وجُزّت رِقاب الأطفال والشيوخ، وانتُهِكت أعراض الحرائر أمام رجالها، وحُرِّق الشباب بالنار والفوسفور، ونُهبِت الأموال، ونُسفت المساكن، على يد أبناء الطائفة وبفتاوى من شيوخها ومقدّميها، وبدعمٍ من مثقّفيها، وغِطاءٍ من “تكنوقراطهِا”.

لقد ابتدأ “الناسِكُ” المُبجّل مبادرته باتهام مُسبق لقطع الطريق على كل من سيفكر بنقد مبادرته أو يُفنِّدها أو يردّ عليها حيث حكم عليهم بأنّهم “تكفيريّين” بما لهم من سوابق في تكفيره وتكفير الطائفة والأقليّات، ثم أعقبه بعدّة تغريدات تتضمّن اتهامات أخرى كالجهل وقصور الفهم، وغيرها من العبارات التي تُعبّر عن فوقيّة فوق العادة.

إن من بدأ بالكفر والتكفير هو الناسِكُ المُبجّل فقد كفر بالمعارضة التي كان يوماً ما أميرها وقائدها وناسِكُها، وهذا شأنه معها كون شأنٌ عائليّ بينهم وليس لنا أن نتدخّل فيه لا من قريب ولا من بعيد، ولكن أن يستبعد الثورة وأهلها ويسقِطهم من الساحة السوريّة نكاية بعقوق أبنائه من المعارضة أعتقد أن هذا الأمر يمنح أهل الثورة الحقّ بالردّ والمحاسبة أيضاً، فمشكلته وما يمثّل وما مثّل سابقاً هي مشكلة تتعلّق بسعيهم للوصول للسلطة، ولم تكن السُلطة والوصول اليها هي قضيّة أساسية من قضايا الثورة إلّا من خلال إسقاط النظام القائم بكلِّ رموزه وأركانه، ولا من واجبات أحد يحسب نفسه على الثورة أو حتى على المعارضة الحقيقيّة ابتداع الحلول لمشاكل النظام وأزماته مع حواضنه الطائفيّة والانتهازيّة ومع العوالِق الأخرى التي تتمسّك به وتعتاش على فضلاته.

إنّ الناسِكَ المبجّل اختار أن يكون ساعي بريد بين مُريديه في دمشق وبين مريدي النظام من أبناء طائفته وبين “بشار أسد”، يحمِل رسائل شفوّية منهم إلى سيّدهم الذي هو أقرب إليهم منه كونه الناسك يقيم “في الدوحة”، هذه الدوحة التي تُعتبر إحدى ركائز المؤامرة الكونيّة على النظام ومواليه بحسب زعمهم ويقينهم، فكيف لهم أن يقبلوا أن ينقل “المتآمر” عنهم تلك الرسائل وكيف للمتآمَرُ عليه أن يستجيب له.

هناك مثلٌ شعبيّ دراج في الأوساط الشعبيّة السوريّة يقول: “الحجّ لا يكونُ عبر الرسائل” ويعني من أراد الحج عليه أن يُجهِّز زاده وراحلته ونفقته وليُحرِم قاصداً البيت الحرام حاجّاً. وهذا المثل ينطبق على من يريد الخلاص من هذا النظام وزبانيّته، فمن أراد الخلاص فليبادر لإعداد العدّة وليبدأ بالعمل، فهناك ركائز ما زالت تساهم في الإبقاء على هذا النظام، وبإمكان هؤلاء إسقاطه عبر هدمهما دون أي تكلفة بشريّة أو حتى ماديّة، مثل التجّار أصحاب رؤوس الأموال الذين مازالوا في مناطقه والذي يدفعون “الخوّات” والإتاوات، وكذلك هناك “التكنوقراط” من أساتذة الجامعات، والأطباء والمهندسين وغيرهم، وهناك الفئات “المُهمّشة والمُستضعفة” من كل الطوائف إذا تم تفعيلها من الداخل فهي قادرة على إسقاط ما تبّقى من هذا النظام المُجرم وزبانيّته.

البحث عن الخلاص عبر ارسال الرسائل الشفويّة يذكِّرني بقصة فيلم “رسائل شفويّة” الذي أنتجته مؤسسة سينما النظام وكان قد أحدث ضجّة في بداية تسعينيات القرن الماضي كونه كان باللهجة العاميّة للطائفة، دعاني يومها أحد أصدقائي لمشاهدته في احدى دور سينما مدينة حلب وكانت الصلات مكتظّة بالحضور وكانت تدور قصة الفيلم عن شاب يُدعى “إسماعيل” ذو أنف كبير نسبيّاً يخجل منه، فيحاول جاهدا التخلص من هذا العيب بطرق مختلفة ولكِّنه لم يفُلِح، ويقع في غرام ابنة الجيران، وبسبب الخجل الذي يتملّكه من مصارحتها وجها لوجه، يقنع صديقه “غسّان” ابن المُساعد أبو غسّان بأن يكون “مرسال غرام” لينقل رسائله الغراميّة الشفهية، الأمر الذي تسبّب بوقوع المحظور بينه وبين معشوقة صديقه، ما تسبّب بوقوع أزمة في القريّة التي كانت تشهد عملية استيلاء على المنازل والأراضي لصالح مدّ سكّة القطار.

وكانت إحدى الرسائل الشفهيّة في هذا الفيلم رسالة من أهل القريّة حمّلوها للمساعد أبو غسّان بأن يسعى لوقف مشروع مدّ سكّة القطار للحفاظ على ما تبقّى من مساكنهم وأراضيهم، “يا خيّنا بو بسام آفيك تدبِّر لنا واسطة بالشام مشان ما يأخذوا لنا أراضينا بالسّكّة” ورُغم ذلك وقع المحظور وقضى غسّان وطراً من معشوقة صديقه، وصديقه إسماعيل قضى وطراً من أخرى، وسكّة “الترين” قضت وطراً من منازل أهل القرية وأراضيهم، وإسرائيل قضت وطراً من السيادة الوطنيّة، وعندما زار “إسماعيل” بيت أبو غسّان على الجبهة مع إسرائيل سأل إسماعيل عمّه أبو غسّان عن مكان إسرائيل فأشار إلى خلف الجبل القريب منهم….. لينتهي الفيلم بمدّ سكّة الترين وزواج إسماعيل من العشيقة المُزدوجة وحفلات الدبكّة والأعراس الوطنيّة.

هل تعلم أيّها الناسك المبجّل متى انتهى عهد البساطة عند هؤلاء القوم؟ لقد انتهى عندما اجتمع “غسّان وإسماعيل” على عشيقة واحدة، وأصبح غسّان ضابطاً في الجيش ثم ارتقى وارتقى ليصبح رئيساً للمخابرات العسكريّة، وأصبح أولاده وأحفاده قادة “أمراء” في كل وحدة عسكريّة، وأصهارهم وأنسبائهم “قادة ميليشيات” ونوّاب في البرلمان وسفراء وقناصل، وأصبحوا الكتلة الأقوى للتكنوقراط في سوريا.

وكانت اللحظة الحاسمة والفاصلة عندما نقل هؤلاء “إسرائيل” من خلف ذلك الجبل إلى كلِّ حيّ وقرية ومدينة من سوريّة وأصبحت طائراتهم وصواريخ وبراميلهم وكيماويّيهم من نصيبنا بدل أن تكون من نصيبها.

أضف إلى ذلك أيّها الناسك أن هذه الطائفة بكل تفاصيلها وعشائرها ورجالها ونسائها، دهمائها و”تكنوقراطِها” لم تعد طائفة سوريّة الولاء بعد حملة التشييع الإيراني الواسعة التي اقتربت من إعلان البيعة للوليّ السفيه القابع في قُمّ.

ألم يأن للنسّاك السوريين أن يروا ويوقنوا بأنّ بشار أسد ليس كـ “فرعون” بني إسرائيل، وأنّهم ليسوا كسيّدينا “موسى وهارون” وأنّ هذا الفرعون فاق كل فراعنة الدنيا كفراً وزندقة وإجراماً، ولم تعد تنفع معه المواعظ والعِبر، لأنّ الذكرى تكون لمن له قلب أو يلقي السمع وهو شهيد، وليست لمن كان قلبُه جلمودٍ صلدٍ من الحقد والخيانة، حتى النحت فيه لا يُفلح لا بالمطارق والأزاميل، وإنمّا يحتاج إلى البارود والتفجير حتى يمكن تفتيته والخلاص منه ومن شرّه.

إنّ إطلاق المبادرات انطلاقاً من المواعظ والتراتيل، لهي دليل جهلٍ فاضحٍ بحقيقة هذا النظام ومن والاه، وإنّ نفي “الكُره السياسي” لهذا النظام تطهّرٌ في غير مكانه، فقضيتنا ليست قضيّة محبة وكراهية وليست نزاعاً طائفيّاً، ولا حرباً أهليّة إنما هي قضيّة حقوق منهوبة ودماء مسفوكة وحريّات مسلوبة وأعراض منتهكة لا تستقيم بالحلول الوسط والمبادرات الإنقاذيّة للنظام وحاضنته التي يقلّ شرها عن شرّه، وإنما بمحاسبة المجرمين ورد الحقوق وإنصاف الضحايا وأول من تجب محاسبته رأس هذا النظام المجرم بشار أسد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني