fbpx

أزمة العلمانيين العرب هل هي أزمة خطاب أم أزمة فكر

0 1٬568

يسوق العلمانيون العرب دفوعاتهم الفكريّة لتفكيك العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة في النطاق الجغرافي للعالم العربي والإسلامي والتي حكمت عالمهم منذ بزوغ فجر الرسالة الإسلامية وما تلاه من أحقاب وعصور، ويجتهدون في نقض أسسها الفلسفية ودراسة سياقاتها التاريخية، ولعلّ جهدهم الكبير هذا يحظى بكثير من المعاني والقيمة لاعتبار أن هذا الالتباس – والالتباس في اللغة هو الاختلاط بين شيئين إلى الدرجة التي يصبحان بها شيئاً واحداً – كان له عظيم الأثر ليس على أنماط الحكم والاقتصاد والاجتماع فحسب بل على صياغة الذهنية الإسلامية في نظرتها للعالم وللآخر حتّى أصبح من العسير هضم الديمقراطية ذاتها بوصفها طعاماً غريباً عن ثقافة المسلمين .
ولدراسة منهج علمانيي العرب في المحاججة وهو أمر تستحيل الإحاطة به لعظم عددهم وانتشارهم، يلاحظ المرء أن معظمهم يشتركون في التالي:
– استسهالهم تعريف العلمانية بفصل الدين عن الدولة دون الفطنة إلى أن السياقات المعرفية والتاريخية لهذا التعريف الغربي جعلته سائغاً في ظرفه التاريخي ومكانه يوم كانت الدولة في العالم الغربي تعني السلطة السياسية قبل تطوّر مفاهيم القانون الدستوري والعام التي باتت تقسّم الدولة إلى أرض وشعب وسلطة سيادية وتقسّم السلطة إلى ثلاثة أقسام: التشريع والتنفيذ والقضاء، وكذلك الدين كان يعني سلطة الكنيسة البابوية على الملوك، ولذا استطاع الغربيون آنذاك الذين أرهقتهم أحكام الكنيسة وما جرّتها عليهم ويلات الحروب الدينية الارتكان والاطمئنان النفسي والعقلي لهذا الفهم الجديد لعلاقة الحاكم والمحكوم، بينما نجد المسلمين وبالذات في عالم العرب لا يطمئنّون كثيراً لهذا التقديم الفلسفي السياسي لما يرون فيه من الغموض والعجمة بحيث لا يعرفون أين تقف حدود هذا الفصل؟ هل هي عند سلطة التنفيذ أم التشريع أم القضاء أم الدستور أم الفصل عن الشعب ذاته المكون الأساس للدولة؟ وهنا يلاحظ المرء عجز العلمانيين في تبيئة الاصطلاح وجعله مناسباً للمناخ الثقافي العربي الإسلامي عبر اشتقاق تعريفات أكثر دقَة وسلاسة. لكننا لا نبخس جهود الكثيرين منهم في تقديم كشوفات معرفية أعمق وأدلّ، لكن، ولغياب تنظيمهم وضآلة المساحات الممنوحة لهم على وسائل الإعلام المملوكة للحكام المستبدين المستفيدين من حرمان الناس من معارف جديدة قد تشكّل أساساً ثقافياً يلغي أسباب وجودهم، لم يفلح علمانيو العرب كثيراً.
سوى ذلك، لم يجتهد معظم العلمانيين من الاستفادة من عناصر العلمانية الثلاث وهي العقلانية والنسبية والحرية في تبريز معان أكثر حداثة تناسب العصر، ولعلّي هنا أغتنم الفرصة في تقديم تعريفي للعلمانية بكلمات ست وهن “تسييد العقل الإنساني على شؤون الحياة” وبطبيعة الحال فإن شؤون الحياة تشتمل السياسة والفكر والقانون والاقتصاد وحتى الدين ذاته، فكيف لامرئ أن يفهم دينه بغير عقل؟ وبرأيي أن هذه الكلمات ربما تخفف حدة وطأة الصراع بين الدنيوي والمقدّس عبر كسر احتكار الجماعات الدينية لفهم الدين بوصفه ماهيّة جامدة لا يختلف على معانيه وفهمه عقل الله عن عقل الفقيه.
– يجد الدارسون للتاريخ الوسيط والحديث للعالم الغربي أن حركة الإصلاح الديني التي نشأت في القارة البيضاء لم يكن هدفها تكريس العلمانية بل على العكس تماماً كان هدفها العودة إلى صحيح الدين ونبذ البدع، وبالتالي فهي هنا تلتقي مع الحركة الوهّابية التي نشأت في نجد، خصوصاً إذا ما علمنا بأن القسّيس الألماني مارتن لوثر كان سلفيّاً في فهمه للاهوت المسيحي وهو القائل بأن غفران الخطايا هو هديّة مجانيّة ونعمة الله من خلال الإيمان بيسوع المسيح مخلّصاً، وبالتالي ليس من شروط نيل الغفران القيام بأي عمل تكفيري أو صالح.
لكن لأن هذه الحركة الاعتراضيّة على الحكم الكنسي التقليدي تسبّبت في ويلات يعجز عنها الوصف فقد أدّت إلى انتزاع ملوك أوربا بعد حين زمام المبادرة لوضع حدّ لهذه الحرب العبثية على السماء وتخليص العالم المسيحي من ليل طويل .
وبهذا نفهم بأن القوى التي ابتغت إعادة جريان التاريخ إلى الوراء كانت دون أن تدري تدفعه نحو الأمام، لذا نستطيع القول بأن حركة الإصلاح الديني لم تكن شرطاً ذاتياً للعلمانية بل شرطاً موضوعياً تاريخياً لأن العلمانية لا تحتوي بداخلها على ضرورة الإصلاح الديني كونها فلسفة لا تنبثق عن الدين أصلاً بل عن فكرة سيادة العقل، ولكن الحقيقة أن هذا الإصلاح ساهم بخلق المناخ الفكري المناسب لانبثاق مفهوم العلمانية وجعله مقبولاً، ربما هذا هو مكر التاريخ عند هيغل.
لكنّنا وللأسف نجد العلمانيين العرب يتغنّون بعصر الإصلاح الديني في أوربا بوصفه قوة توليد واعية للعلمانية وكأن لوثر وأصحابه هم الآباء الروحيين لنيوتن وسبينوزا وكانت وهيوم وآدم سميث وفولتير، والحقيقة أن هذا الكلام غير صحيح. فما فعله عصر الحرب “الإصلاحية” أنه ساهم بغير قصد في إطلاق الإبداع الإنساني وتشكيل البنية الأساسية لتعمير العالم الحديث صناعياً وقيمياً وفكرياً وأخلاقياً، ولعّلنا نرى في ذلك تزييفاً للوعي بوعي أو بغير وعي.
وطالما والأمر كذلك فإن بناء الدولة العلمانية في العالم العربي والإسلامي لا يشترط أن يكون المسار إليه متضمناً للإصلاح الديني، كون العلمانية غير معنية بهذا الإصلاح بل هي وظيفة المشتغلين في الحقل الديني ذاته والعلمانية والإصلاح الديني حقلان مختلفان كالاختلاف بين العلمانيين واللاهوتيين.
رغم ذلك نرى بأن الكثير من العلمانيين العرب لا يحترمون هذه المسافة الفاصلة بين المجالين وتراهم ينوسون بينهما فتارة يشتغلون بتقديم تفاسير جديدة كما فعل السيد القمني والشحرور وحبش وتارة يدعون إلى فصل الدين عن شؤون الدولة وهم معنيون بالدولة كما أعلن الشحرور غير مرة بأن سبب اشتغاله بعلوم القرآن هو صدمته بنكسة حزيران.
هذا الفخ وقع فيه مفكرون وفلاسفة كالطيب التيزيني وصادق العظم وربما كان آخرهم الأستاذ أحمد البرقاوي في تغريدته التي قال فيها “تحتاج الأديان الأربعة في بلادنا: اليهودية والمسيحية والإسلام والشيعة إلى مراجعات نقدية وإصلاح ديني راديكالي” ثم أكمل بأن المسيحية فعلت ما عليها .
وإن كنت لا أدري ماذا فعلت المسيحية؟ لكنني أدري ماذا فعل المسيحيون بالمسيحية، إلّا أننا نجد البرقاوي وهو العلماني الشهير تنظيراً ونضالاً يعترف باستحياء بفشل مسعاه بالاستغناء عن هذا الإصلاح ليعود ويؤكد أهمية جهد الشحرور وعدنان الرفاعي وغيرهم، بالرغم من أنه كان يسخر من عملهم ويعدّه عملاً لا معنى له، فاللاهوتيون لا يمكن أن يتفقوا مع بعضهم، وفي هذا أنا أوافقه تماماً.
هذا التخبط والارتباك في الخطاب الذي نراه لدى العلمانيين يدفعنا للتساؤل عن جدوى ارتكاسهم في بئر التفسير الجديد لنصوص الدين أو الدعوة إليه لا هجره وتركه من الأساس، بل أجزم أن أكثرهم من الذين يلعبون الدورين ساهموا بتعطيل سيرورة نضوج الوعي لدى المتلقّين نظراً لغياب الحيادية في الطروحات وتصور المتلقي المسبق بنوايا سيئة لهؤلاء الكتّاب، خصوصاً إذا ما أضفنا صغار المثقفين والطائفيين الذين يكتبون بلغة شديدة الانفعالية والشحن العاطفي، والمثل العربي يقول (من تكلّم بغير فنّه أتى بالعجائب).
خلاصة القول والحديث يطول، رغم أن الإصلاح سواء لجهة فهم نصوص الدين أو لجهة إعادة تنقية وتصفية التراث حاجة ضرورية ملحة تفرضها مقتضيات العصر والحياة إلا أنها لا يمكن أن تحصل إذا أصرّ العلمانيون أن يضطلعوا هم بهذا الدور ليس لأن ذلك ليس من وظائفهم فحسب بل لأن ذلك يحتاج إلى جملة من الشروط القانونية والسياسية والثقافية والنفسية حتى بحيث تضطر المؤسسات الدينية إلى فلترة ذاتها قبل أن تجتازها أفهام وميول وحاجات الناس ويدهسها قطار الزمن، وهذا بالقطع لا يتحقق بيوم وليلة بل هو جزء من مسار واعٍ لأمة قررت أن تكون موجودة على خارطة الأمم لا في أرشيفها.
ودون شك يحتاج العلمانيون العرب إلى تحديث معارفهم وأدواتهم الفكرية والخطابية، لا سيما وأن مفردة العلمانية ذاتها أصبحت تنتمي إلى عالم قديم عفا عليه الدهر أصبحت معه النظم الغربية الحديثة أكثر مناعة بحيث لا يضيرها استيعاب قوى وأحزاب سياسية جديدة بمرجعيات حضارية دينية.
ويبقى السؤال دائماً، هل أزمة العلمانيين العرب هي أزمة خطاب أم أزمة فكر؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني