fbpx

قراءة في رواية “إني قادمة”

1 586

عقاب يحيى ناشط سياسي ومعارض للنظام السوري منذ عقود، عضو في الائتلاف الوطني السوري، له كتابات روائية عدة.

الرواية تتحدث عن الواقع السوري، ومداها الزمني في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، الرواية مباشرة ومليئة بالواقع والواقعية، تتحرك الرواية بشكل خطي متراكم زمنياً عبر أبطالها، وعندما تكتمل الرواية يكتمل نسيج الواقع الذي تتحدث عنه، أو تريد توصيل رسالتها من خلاله.
لبنى فتاة جامعية من هامش المدينة وجوداً ومعيشة وعلاقات، هي فتاة وعت على الدنيا والحرمان أهم ما يحضر وجوداً وعقداً. تعيش بحثاً دؤوباً عن معنى لحياتها، وعن إشباع لحاجاتها الإنسانية الصغيرة أو المستقبلية. ستتفاعل مع مجموعة من الطلاب يطرحون رؤية سياسية تريد تغيير الواقع الاستبدادي والمتخلف والفاسد نحو الأفضل، ستجد أنها مشدودة بين الانتماء لهذا التوجه بكل مسؤوليته والخوف به ومنه وعظمته، وبين ذاتها النهمة لإشباع مادي مباشر، يطحنها فقرها وتخلف أهلها حياتا وعقلية، ستتعرف على طريق “الباله” – الملابس المستعملة – المليء بالبديل المريح مادياً، الذي يجعلها غير ذاتها الفقيرة والمتخلفة.

ستجد في البالة ضالتها للجميل والرخيص والمعوض نفسياً من الملابس، وسيجد بها صاحب الباله صيداً، يستدرجها ويوقع بها وتسقط معه جنسياً. تعيش تناقضاً مطلقاً، هي من عائلة محافظة، يذبحها أهلها أن اشتموا رائحة ما حصل، وصاحبها وعدها بزواج سري. صارت في حالة تمزق نفسي بين طموحاتها وواقعها، وخاصة أنها تحب زميلها عبد الهادي النموذج السياسي، وإن مستقبلها ضاع، وضاعت.
عبد الهادي شاب جامعي ابن عائلة عصامية، والده مدرس وهو واحد من أبناء السلطة (البعث)، التي وصلت للحكم محملة بآمال الناس بالحرية والعدالة، ولكنه أدرك أن (الثورة) تحولت لاستبداد يمتص الدولة والمجتمع، رصد تحول الرفاق لطغاة وفاسدين وسدنة معبد السلطة، يحاول الإصلاح ويفشل ويبتعد مؤثراً سلامته الشخصية، يرصد دخول ابنه عبد الهادي معترك السياسة باحثاً أيضاً عن الحرية والعدالة، حاول أن يثني ابنه لكن دون أمل، سيخبره أن السلطة ظالمة ولا ترحم، وأن هؤلاء المتنفذين الذين أصبحوا مالكي الدولة والمجتمع يدافعون عن مكتسباتهم عبر كل الوسائل القمعية والقتل والسحل والاعتقال، كل الوسائل مسموحة للدفاع عن السلطة، حتى سحق البشر تحت دعوى الدفاع عن الدولة والثورة والشعب، عبد الهادي لا يتعظ من أبيه لأن هاجس الحرية والعدل يهيمن عليه، ويريد أن يصنع قدره السياسي مع رفاق له، منهم أخوه وأخته ولبنى وآخرون، وهم يتحركون منتظرين أقدارهم مع سلطة ترصدهم، تخترقهم أمنياً، وتنتظر فرصة لاعتقالهم وإنهاءهم كظاهرة مضادة.

ندخل لعالم لبنى وأختها أمينه التي اختصرت حياتها كآلة إنتاج في عائلة قروية هامشية تماماً كبرتهم وحمارتهم وبقية بهائمهم، كانت منطلقة يوماً، لها أحلامها، ضبطت بعلاقة مع أحد الجيران، كادت تقتل وفحصت جنسياً، أما من اتهم بها وكان يحبها وأنه معتد عليها، ضاع نفسياً وخسر توازنه وانتحر، إخوتها الشباب بين تائه وأحمق وكادح والكل أكلته الحياة، وهذا وجه آخر للكدح الذي يساوي العدم. لبنى هربت من بيت أهلها لتستر عارها، فالسقوط الجنسي صنع حملاً، وقطعت كل علاقاتها مع الحبيب، لأنها أصبحت مسكونة بإحساس العار، قررت أن تبحث عن طريق التحرر والاستقلال وبناء حياة على هواها، تلجأ لسلمى الفتاة التي تظهر أنها خارج المألوف والقيم وضد كل رواسب المجتمع وعاداته، تجد هناك عالماً آخر يمتلئ بالوجه الآخر للسلطة، البشر الذين يتحركون لمصالحهم المباشرة، يتاجرون في كل شيء، يحافظون على مصلحة السلطة ومن خلال ذلك يؤمنون مصالحهم الضيقة، إنهم شبكة العائلة الحاكمة في السلطة مع الجيش والأمن، إنهم أجهزة القوة، لا محرمات عندهم، المال والمرأة وكل الموبقات وسيلتهم، تتبنى سلمى لبنى وتساعدها مع أخرى ابنة للنظام ولشبكة الحكم بالمباشر اسمها جمانه، تقول الرواية إن هناك أناس جيدين وسط جيفة السلطة، وستصل إلى عائلة تحتضنها وتحميها، فهي هاربة بحملها من أهلها الذين يسنون أدواتهم لذبحها، ومطلوبة للأمن الذي انقض على تنظيمهم فاعتقل عبد الهادي وأخته وأخاه وأغلب التنظيم، نتعرف على الأمن وأساليبه، التعذيب وإذلال الاعتقال والتحقيق والقتل للوصول للمعلومة، كل شيء مباح لأجل السلطة والحفاظ عليها، يموت عبد الهادي وبعض الرفاق تحت التعذيب، تكتشف لبنى كم كانت تافهة يوم سلمت نفسها لصاحب بالة استباحها، وأنها خانت رفاقها يوم تركتهم والتجأت إلى أعدائهم ليحموها، وكيف حملت عار الطفل في رحمها وخيانة رفاقها، ولم يخفف من شعورها وجود بشر جيدين وسط مجتمع غاب، وما بالك وسط أزلام السلطة وتابعيها. تقرر لبنى أخيراً الانتحار، وتنتحر متحررة من عارها، مرتاحة من تبعات خيانة الأهل والرفاق، تنتحر تاركة رسالة تفسر وتعتذر وتودع.
هنا تنتهي الرواية، ولكن مأساة السلطة واستبدادها والاعتقال السياسي، وتحول الناس لعبيد في البلد مزرعة للسلطة، تنتهي دون أمل وكان لابد أن يمضي حوالي عشر سنوات عن زمن كتابة الرواية لينطلق الربيع العربي، لينصف إنساننا ويعيده لحقه الفطري بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والعيش الكريم.
رواية أقرب الى دراسة اجتماعية سياسية، فيها كثير من الحقائق، وفيها كثير من الرغبات والأماني، لكن – وبكل الأحوال – هي وغيرها من الأدب السياسي، إرهاص مبكر للربيع العربي الحاضر الذي يدافع عن وجوده وانتصاره.

الكاتب: عقاب يحيى

مخطوط 2002

1 تعليق
  1. خالد حمادة says

    سلمت يداك استاذ احمد و يد الكاتب

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني