fbpx

وسائل التواصل: سلاحٌ بوجه الحقيقة

0 54

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد أدوات رقمية عابرة تتيح الترفيه وتبادل الصور، بل أصبحت منصات توازي في تأثيرها مراكز صنع القرار، وتهيمن على المزاج العام، وتُعيد تشكيل العلاقات بين السلطة والمجتمع، وبين النخب والجماهير. لقد أصبح هذا الفضاء الرقمي ساحة للمعارك الناعمة والضغوط الخفية، وورقة تستخدمها قوى متعددة، من الأنظمة إلى الشعوب، من النشطاء إلى الذباب الإلكتروني. والسياق السوري خير دليل على هذا التحول العميق.

فمنذ اندلاع الحراك الشعبي عام 2011، تحولت وسائل التواصل إلى شريان إعلامي موازي، يعكس سرديات متضاربة، ويُنتج واقعاً افتراضياً يتجاوز في بعض الأحيان قدرة الأرض على مواكبته. لقد ظهرت هذه المنصات في اللحظة التي كانت فيها البلاد تعاني من احتكار الإعلام الرسمي، وغياب الشفافية، وشعور عام بالانسداد السياسي والاجتماعي، ففتحت نوافذ غير متوقعة للتعبير، لكنها سرعان ما تحولت إلى أدوات في صراع الإرادات.

سرديات تتجاوز الواقع

ليس من المبالغة القول إن السردية السورية الحديثة كُتبت أولاً على فيسبوك وتويتر، ثم تسربت إلى الشوارع والمخيمات وقاعات التفاوض. إلا أن هذا الدور المزدوج لوسائل التواصل – بين التعبير والتحريض، بين التوثيق والتضليل – يستدعي فهماً استراتيجياً متقدماً لطبيعة هذه المنصات، وآليات تأثيرها، والأطراف التي تتحكم بها.

ففي الحرب كما في السياسة، تُستخدم المعلومات كسلاح. وهنا تتجلى إحدى أخطر وظائف وسائل التواصل: التلاعب بالوعي الجمعي، وتوجيه الانفعالات، وتفتيت الإجماع الوطني. رأينا كيف تُفبرك الروايات، وتُقص الصور من سياقها، وتُضخ الحملات المنظمة من حسابات مجهولة الهوية أو مدفوعة الولاء. وكل ذلك يتم باسم الحرية، فيما الهدف الخفي قد يكون إعادة إنتاج الاستبداد أو زرع الشك في البدائل.

إن ما يجعل التضليل على وسائل التواصل أكثر فاعلية هو غياب الحواجز، ووفرة التقنيات، وسرعة الانتشار، وضعف أدوات التحقق لدى المستخدمين. فحين تنشر خبراً مفبركاً على منصة يتفاعل معها الملايين في لحظة، ثم تُحذف أو تُكذّب بعد أيام، تكون الرسالة قد حققت هدفها. إنها حرب معلوماتية تعتمد على نظرية “الصدمة الأولى”، لا على سردية الحقيقة.

لكن المشكلة ليست فقط فيمن يُنتج التضليل، بل فيمن يُعيد إنتاجه. جمهور غير مدرّب على التفكير النقدي، تحكمه ردود الفعل، وتغريه العناوين الصادمة، فيتحول إلى شريك في الحرب ضد نفسه. هذه إشكالية حقيقية في الحالة السورية، حيث تختلط مشاعر الغضب المشروع مع خطاب الكراهية، ويغيب الخط الفاصل بين التوثيق والتحريض، بين النضال السياسي والانخراط في الاستقطاب الأعمى.

إن الواقع يفرض علينا أن ننتقل من التعامل العاطفي مع وسائل التواصل إلى التعامل معها كقوة استراتيجية. فهذه المنصات لم تعد بريئة، ولا عفوية، بل أصبحت مجالاً منظماً للتأثير. وهي تخضع لتقنيات متقدمة في تحليل السلوك الجمعي، وتحديد الفئات المستهدفة، وقياس التفاعل، وتكييف الخطاب وفق ميول الجمهور. إنها ساحة معركة متجددة، حيث تتداخل فيها الجيوسياسة مع الخوارزميات.

مناعة رقمية مجتمعية

من هنا تبرز الحاجة إلى بناء مناعة رقمية مجتمعية، لا تُعنى فقط بملاحقة الأخبار الكاذبة، بل بتأسيس وعي نقدي قادر على فهم أعمق للسياقات. لا يكفي أن نحذر من المعلومات المضللة، بل يجب أن نعلّم الناس كيف يتعاملون مع الفضاء الرقمي، كيف يتحققون، وكيف يُميّزون بين ما هو توثيق وما هو تزييف.

في المقابل، على الدول أن تدرك أن تنظيم وسائل التواصل لا يعني قمعها. فالقوانين التي تُسن تحت عنوان “مكافحة الشائعات” قد تتحول إلى أدوات لإسكات الرأي الآخر إن لم تكن مدروسة، شفافة، وتحترم المبادئ الحقوقية الأساسية. والمجتمع الدولي بات يشدد على ضرورة أن تتجنب هذه التشريعات التعريفات الفضفاضة والعقوبات المفرطة، وأن توازن بين محاربة الكراهية وصيانة حرية التعبير.

لقد أظهرت التجربة السورية – بما تحمله من ألم وأمل – أن وسائل التواصل يمكن أن تكون سيفاً ذا حدين. فهي من جهة، ساهمت في توثيق الجرائم، وربط السوريين في الداخل والخارج، وفضح الانتهاكات. لكنها من جهة أخرى، فاقمت الاستقطاب، وزرعت الشك، وساهمت في نشر خطاب الكراهية، بل وغيّبت أحياناً القضايا الجوهرية لصالح صراعات وهمية.

إن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في تطوير أدوات رقمية لمكافحة التضليل، بل في إعادة تعريف العلاقة بين المجتمع وهذه المنصات، في توجيه الخطاب نحو بناء وعي جمعي يُعيد ترميم ما تهدّم من روابط وطنية، وفي تحويل وسائل التواصل من أدوات للهدم إلى أدوات للحوار والتماسك.

المعركة على العقول

ما نحتاجه ليس فقط تنظيماً قانونياً، بل مشروعاً معرفياً يُعيد الاعتبار إلى التفكير النقدي، والمساءلة الأخلاقية، والاحتكام إلى العقل. فالمعركة لم تعد على الأرض فقط، بل في العقول أيضاً، ومن يُهيمن على السردية يُهيمن على المستقبل.

وإذا أردنا لسوريا أن تستعيد وحدتها ومكانتها، فعلينا أن نحسن استخدام هذه الأدوات الرقمية، لا أن نقع ضحية لها. فوسائل التواصل ليست بحد ذاتها خيراً أو شراً، بل هي مرآة لاختيارنا إما أن نستخدمها للارتقاء، أو نتركها تُغرقنا في الضجيج والتيه والانقسام.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني