fbpx

هيئة الاعتراف والمصالحة..  النموذج السوري

0 264

مبادرة طبّقها مانديلا بعد سقوط النظام العنصري في جنوب أفريقيا وقادها رجل الإنسانية الحكيم ديزموند توتو…. وكذلك طبّقت في بوليفيا وراوندا بأشكال متقاربة.

وهي مبادرة تحتاجها سوريا التي ورثت عن النظام البائد مجتمعاً محطّماً، أجبر ملايينه على الاصطفاف قبل بعض عبر صيحات مجنونة من الكراهية، وتحت عنوان السيادة الوطنية والجيش الوطني وجد عشرات الآلاف من السوريين أنفسهم متورطين بدم إخوانهم، في كارثة لن تمحى قبل عشرات السنين.

كيف يمكن أن نبني السلم الأهلي والمصالحة؟ لدينا تجارب مهمة وفعّالة، وقد حققت نجاحاً لافتاً لتجاوز عصر الحرب والفتنة والتحوّل إلى عصر الإنسان.

لعل أشهر هذه المحاولات كانت لجنة الحقيقة والمصالحة لجنوب أفريقيا عام 1995، حيث بدأت جلسات الاستماع الرسمية في العام 1996. دعا حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لكشف «الحقيقة» حول سنوات الفصل العنصري، بينما طالب الحزب الوطني الحاكم بالعفو عن العديد من مرتكبي الجرائم من أركان نظام الفصل العنصري، ما أدى لإنشاء لجنة «الحقيقة والمصالحة» المختلطة بقيادة المطران ديزموند توتو. خلال فترة عملها كان هناك 3 لجان هي لجنة انتهاكات حقوق الإنسان، ولجنة العفو، ولجنة إعادة التأهيل والتعويض.

تقدّم للاعتراف نحو سبعة آلاف متورط في الدم، وأقروا بانتهاكهم لحقوق الإنسان، وكانت اللجنة مخوّلة بمنح الجاني العفو إذا اقتنعت باعترافاته، وثبت أن وراءها دافع سياسي وموقف مبدأ، فيما لم تقبل العفو عن الجرائم التي ارتكبت بأهداف دنيئة.

كان المتهم يأتي طواعية إلى منصة عامة، فيسجّل معلوماته في وثيقة رسمية، بحضور عدد من الشخصيات المحترمة، ثم يرتقي المنصة في طقس مهيب محاط بالنصوص المقدسة، فيتحدث لدقائق حديثاً مسجلاً بأنه قام بارتكاب خطايا ضد الناس، بسبب الجهل، أو بسبب الخوف، أو بسبب الطمع بالمال، وأنه يشعر بالحزن والألم لما سببه للناس من معاناة، ويطلب من الناس الغفران والصفح، وأنه يعاهد الله على التوبة النصوح.

كانت هذه الاعترافات أكثر ما أقنع ذوي الضحايا بالغفران والمسامحة، ومع أن كثيراً ممن اعترفوا لم ينالوا موافقة اللجنة، ولكن الاعترافات أوقفت غضب الأهالي وأقنعت كثيراً منهم بوقف الملاحقة القضائية، والاكتفاء بالاعتراف والاعتذار، كما أنها أسهمت هذه الاعترافات في تأهيل كثير من المرتكبين للدخول في حياة جديدة بعيدة عن الآثام.

هل تقدم هيئة السلم الأهلي النموذج السوري من منصة الاعتراف والمصالحة؟

أعتقد إن سوريا، وهي اليوم محط أنظار العالم، قادرة أن تقدّم النموذج السوري، الذي ستدرسه الأجيال في تجاوز آثار أبشع اضطهاد وظلم عاناه شعب في العالم في هذا الألف الجديد.

في مقبرة الشهداء ستقام منصة خاصة بحضور عدد من القضاة ورجال الدين والوجهاء، ويتقدم الراغبون في الاعتراف والمصالحة في أجواء من رهبة الموت وكرامة الإنسان، فيخرج الجاني على المنصة ليقدم اعترافاته وندمه على ما بدر منه، ويعلن أنه نادم على ما فعل، ويلتمس العفو من أرواح الضحايا، ويبيّن أنه ارتكب جنايته تحت ضغوط الخوف والجهل، وأنه مستعد للمحاكمة والقصاص، ويرجو الله تعالى أن يغفر له خطاياه.

الدولة لا تمنح عفواً للمعتذر، إنها فقط تمنحه صك سماع الاعتذار، وفق شروط تحددها للتأكد من صدق طويته وتوبته، وإذا ما سيق للمحاكمة بعد ذلك، فإن القاضي سيعتمد صك الاعتراف كواحد من الأسباب المخففة للجرم، وبالتأكيد فلن يستوي المعترف مع المستكبر إذا وقفا أمام سدة القضاء.

الاعتراف سيكون متاحاً على منصة الأنترنت يسمعه كل من عانى من جرائمه، وسيشعر كثير من الضحايا بأنهم وصلوا إلى اعتراف واعتذار، وربما يتوقفون عند هذا، ولن يتابعوا في المحاكم، فيما سيبقى العتاة المستكبرون يواجهون أقدارهم ومحاكمهم.

الهدف هو تقليل المحاكمات، ودفع الناس إلى خيار المصالحات بعيداً عن أقواس المحاكم، والتحول إلى مجتمع نظيف قادر على تجاوز الماضي وآثامه وخطاياه.

 ومن الضروري هنا أن نشير أن وثيقة الندامة الأدبية التي ستمنحها الدولة للجاني، ستكون صفتها في المركز القانوني: وثيقة دفع لا وثيقة إثبات، وهذا بالطبع يتطلب تشريع قانون بذلك، بحيث لا تستخدم كوثيقة منشئة لإدانة المعترف، وإنما كوثيقة اعتراف لما تم إثباته من مصادر قانونية أخرى، وبذلك فإننا نشجع كل مخطئ على التقدم للاعتراف، لأن الاعتراف سيكون حتماً في صالحه، على الرغم من أنه لن يعفيه من المثول أمام القضاء.

ماذا لو نجحت اللجنة في تسجيل عشرة آلاف اعتذار، وترافق ذلك مع حملات يقودها المؤثرون من رجال الوعي ونسائه، ليحملوا الناس على التفكير بالمستقبل وتجاوز الماضي، والتحول إلى الغفران بدل الانتقام/ طبقاً لآيات القرآن المجيد التي أمرت بالعفو حتى في القصاص نفيه، وشرعت الديات لتخفيف ذلك، فمن غفر له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان.

إن الجرائم التي ارتكبت في سوريا كانت في معظمها جرائم سياسية، يعني أن أصحابها قاتلوا وقَتلوا وهم يؤمنون بما يصنعون، وكانوا مغيّبين عن الواقع، وهذه كلها شبهات تدرأ الحدود، أو تخفّف منها.

كما أن الاعتراف مطلوب من كل من ارتكب الجريمة، سواء قاتل مع الجيش والمخابرات، أو قاتل مع الفصائل، فقد ألقت الفصائل آلاف قذائف الهاون على المدن، وفجّرت في مجاميع فيها مدنيون، واقتتلت فيما بينها وحصدت مئات الضحايا.

كلنا مدعوون إلى الاعتذار، وكلنا مارسنا دور الجلاد ودور الضحية، ولن يخرجنا من هذا المستنقع إلا توبة نصوحة تكفر بالماضي وتؤمن بالمستقبل.

إننا نتحدث عن خالد بن الوليد كسيف مسلولٍ لله ورسوله ولكن علينا أن تذكر أنه قبل سنوات قليلة تورط بالهجوم على أهل أحد، وقتل سبعين صحابياً فيهم حمزة عم الرسول ومصعب بن عمير وعشرات من كبار الصحابة ولكن الرسول نظم له دخول الباب من جديد، ومنحه ألقاباً كبيرة، ودعاه أن يقرأ المستقبل، وأن ينسى الماضي.

نريد أن نعيش معاً، والدم يجرّ الدم، والقتل يجرّ قتلاً جديداً، والغفران هو من يخلق الوطن الجديد.

إنها فرصة للاعتذار من الأمهات المكلومات والأيتام الحزانى والشعب المظلوم…

وهي كذلك فرصة للخلاص من عذاب الضمير، الذي يعانيه آلاف الخاطئين الذين يبحثون عن طريق لتغيير حياتهم والتوبة إلى الله مما اقترفوه، ونيل المسامحة من الناس.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني