fbpx

هل يرسم انحسار النفوذ الإيراني ملامح إقليم جديد شرق المتوسط؟

0 195

رسمت إيران بتمددها نحو الغرب، منذ تثبيت دعائم ثورتها الإسلامية عام 1979، خارطة نفوذ باتت تضم في الوقت الحاضر ثلاث دول هي العراق وسورية ولبنان، حيث تهيمن السياسة الإيرانية إلى هذه الدرجة أو تلك. استندت إيران إلى ركائز مذهبية بادئ الأمر، من خلال دعم الطوائف الشيعية الموجودة مسبقاً في هذه البلدان وبنسبٍ متباينة، أو عبر نشر التشيع وبناء المؤسسات الدينية ذات الصلة. 

حصل ذلك في لبنان منذ بداية الثمانينيات، وساعدها في ذلك وجود طائفة شيعية كبيرة ومظلومةـ تكرست مظلوميتها عبر صيغة 1943، والتي وضعت الأساس السياسي لتقاسم السلطة في لبنان الحديث. كان الظهور الأول للنفوذ الإيراني من خلال حركة المحرومين، التي أنشأها الإمام الراحل موسى الصدر، إلى أن ظهرت ميليشيا حزب الله، كقاعدة عسكرية إيرانية انتهت بالهيمنة على لبنان سياسياً وعسكرياً، بعد أن استغلت واقع الصراع العربي/الإسرائيلي لدغدغة أحلام الشعوب العربية المشبعة بالهزائم.

وكان على إيران أن تنتظر الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 لتجتاح العراق، مستخدمةً الميليشيات الشيعية الموجودة على أراضيها، والتي كانت قد لجأت إلى إيران بعد قمع الانتفاضة الشيعية جنوب العراق عام 1991 من قبل قوات صدام حسين المنسحبة من الكويت، تحت ضربات قوات التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية (درع الصحراء) بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وكانت الحرب التي شنها صدام حسين على إيران عام 1980 قد انتهت إلى لا غالب ولا مغلوب عام 1988. 

ووفرت أحداث الثورة السورية فرصة ذهبية لإيران للتغلغل عميقاً في الواقع السوري، وجندت إيران الكثير من المجموعات المسلحة لمساعدة النظام وجلبت أخرى من العراق وأفغانستان وغيرها. وكان الوجود الإيراني خجولاً قبلئذٍ، وفشل التشيع في تحقيق اختراقات مهمة في سورية بعد الثورة الإيرانية، بالرغم من صرف أموال طائلة لهذا الغرض وبناء بعض الجوامع والحسينيات. 

يمكن القول بأن إيران فشلت في تصدير ثورتها بالوسائل الثقافية فقط، وكان اعتمادها الأهم على الميليشيات الطائفية المسلحة لتثبيت خريطة نفوذها في دول المشرق العربية الثلاث، العراق وسورية ولبنان، ما هدد، وما يزال يهدد، بانفجارات اجتماعية، فقد اندلعت في العامين الأخيرين ثورات شعبية في كل من العراق ولبنان ضد النفوذ الإيراني والقوى الخاضعة له، وحملتها مسؤولية الفشل العميق الذي أصاب مؤسسات الدولة في البلدين. 

تتعرض إيران حالياً إلى ضغوط لا قِبل لها بمواجهتها، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية الأميركية والهجمات الإسرائيلية المستمرة لمنع التموضع الإيراني في سورية، فضلاً عن التواطؤ الروسي بسبب التنافس مع إيران على النفوذ في سورية. يمهد ما سبق لانحسار النفوذ الإيراني في السنوات القليلة القادمة عن دول شرق البحر المتوسط، ما قد يخلق فرصةً لتشكيل محور إقليمي جديد يضم العراق وسورية ولبنان، وقد تنضم إليه الأردن لاحقاً. وليس ثمة خيارات كثيرة أمام دول شرق المتوسط إلا أن تنسق فيما بينها بعد انحسار النفوذ الإيراني لبناء روابط جديدة، إذ سيؤدي انحسار هذا النفوذ إلى محاولة ملء الفراغ من قبل القوى الإقليمية الأخرى في المنطقة، وأهمها تركيا وإسرائيل. 

يشكل إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط وحدة اقتصادية سياسية قد تعيد فكرة سورية الطبيعية إلى الوجود مرةً ثانية. وفي حال بقيت الدول الثلاث مشتتة وضعيفة، فإن دول الجوار لن تتركها بحالها، وتعرض استقلالها ووحدتها للخطر. وسورية ستكون الأضعف إن لم تتسارع خطوات الحل السياسي المنشود، المستند إلى توافق دولي يمكن أن يضع حداً للتدخلات الإقليمية المباشرة أو غير المباشرة في هذا البلد.

يمكن أن تجمع بين بلدان العراق وسورية ولبنان والأردن صيغة كونفدرالية اقتصادية/سياسية تقيم علاقات متوازنة مع إيران وتركيا ودول الخليج، وقد يمتد التطبيع مع إسرائيل ليشمل هذه البلدان أيضاً. تستند هذه إلى قبول ودعم دوليين منتظرين، بخاصة من الولايات المتحدة الأميركية، كمقدمة لانتشال هذه البلدان من حالة الفشل السياسي، وإعادة بنائها على أسس جديدة، وتحولها من مستنبتات أيديولوجية، إسلامية وقومية وغيرها، إلى بلدان حديثة يسودها القانون وتتمتع بازدهار تمتلك معظم مقوماته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

حلم بناء بلدان تصلح للحياة الكريمة لم يعد بعيد المنال، والقوى الشبابية تعرف ما يجب عليها فعله، مكتسبة وعياً جديداً عبرت عنه المطالب الشعبية في العراق ولبنان، ونجد إرهاصاته في سورية الآن، والكفيلة بطي صفحة الحرب وخلق بيئة للسلام والحرية وكفاية العيش. 

الوضع السياسي الذي ساد في هذه المنطقة مآله الزوال عبر تحولات مؤلمة ستطيح بكل أنظمة الحكم المافيوية الفاسدة، وتمثل التحولات الاجتماعية العميقة وسهولة التواصل وسرعته، الأساس الذي سيرفع قوى جديدة إلى الحكم تكون مسؤولة أمام مواطنيها، كما في أي نظام ديمقراطي بات من ضرورات العصر. 

من غير المعروف كيف ستسير هذه التحولات، وما هي العراقيل التي ستعترضها، لكن الثابت هو أن الزمن لن يعود إلى الوراء، وإن كل الحواجز التي صنعتها العداوات والأيديولوجيات ستنهار تحت ضربات الحرية والانفتاح والبحث عن الكرامة البشرية، التي داستها قوى الاستبداد والقوى الظلامية المتحالفة معها.   

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني