fbpx

هل نحن أمة العقل أم أمة النص؟

0 227

يفضل الواعظون الإجابة بأننا أمة النص، وهو خيار يلزمنا بالاتباع والتقليد ويحول بيننا وبين الفكر والنظر الحر والاجتهاد في ديننا وماضرنا ومستقبلنا.

وحين يريدون أن يتحدثوا عن العقل فإنهم يبادرون للقول إن دور العقل عظيم وأساسي، وهو الذي يفسر النص ويحدد طرق اتباعه، ولا يجوز أصلاً أن نؤجر عقولنا بل نحن نحتاجها لفهم النص وضبط تفاسيره.

وفي الواقع فإن كاتب هذه السطور بعارض هذا الرأي بالمطلق، ولا يعتقد ان تعبير (أمة النص) يخدم قيام هذه الأمة ونهوضها، بل إنه يكرس للأسف العقل الاتباعي الآبائي الذي جاء القرآن الكريم يحاربه منذ فجر التاريخ الإسلامي: بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.

هذه المقالة محاولة للنفاذ إلى جذر المشكلة وقراءة المسألة وفق المقاربة التاريخية لأزمة الفكر الإسلامي.

ويمكن إدراك بدايات هذا الخلاف منذ عهد النبوة أيام التابعين، حيث تكرّس النشاط العلمي في الإسلام عبر مدرستين اثنتين مدرسة الفقه (الرأي) ومدرسة الحديث، وكانت مدرسة الرأي تعظم العقل فيما كانت مدرسة الحديث تعظم النص، وفي مرحلة لاحقة سميت مدرسة الأثر ومدرسة الاجتهاد، ومدرسة الرواية ومدرسة الفقه.

نشأ الفكر الظاهري منذ القرن الثالث الهجري رداً على مناهج الفقهاء في التجديد والاجتهاد وذلك على يد المفكر الإيراني داود بن علي الظاهري 201-271، فقد تقلب هذا المفكر بين العراق وإيران، وذلك بعد أن اكتملت مناهج الفقهاء الأربعة في الاستنباط الإمام أبو حنيفة 70-150هـ، والإمام مالك بن أنس 93-179هـ، والإمام الشافعي 150-204هـ، والإمام أحمد بن حنبل 164-241هـ.

وكان داود بن علي شديداً على الفقهاء، ولم يكف عن التصريح بأن هذه المذاهب الأربعة إنما هي بديل عن الدين الواحد الذي جاء به النبي، ولم يتورع عن القول بأن مذاهبهم في الاجتهاد إنما هي هدم للشريعة، وأن النجاء إنما هو في ترك هذه المصادر التشريعية جميعاً والوقوف عند الكتاب والسنة دون سواها من المصادر.

ففي حين أقر الفقهاء مبدأ تعدد مصادر التشريع فجعلوا منها الإجماع والقياس والاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع والعرف وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي فقد أنكر الظاهرية ذلك كله، وعدوا التشريع بواحد من هذه المصادر افتئاتاً على الله وعدواناً على الشريعة، وقد كتب داود بن علي كتاباً مبكراً في ذلك أسماه: إبطال القياس، وكانت عبارته التي تكررت في مواضع كثيرة ثم صارت كالعنوان لدراسته: (القياس منهج إبليس، وأول من قاس إبليس بقوله: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)!.

والحق أن الظاهرية كتيار كانت أسبق من داود بن علي، فقد ظهر في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي من أحجم عن التفكير، ورأى أن البعثة المحمدية حسمت المسائل جميعاً بالنصوص، وأنه لا مبرر لأحد أن يجتهد إذ النصوص المعصومة تكفلت ببيان كل شيء، ولن يظهر على هذه الأرض شيء إلا وفي الكتاب والسنة بيانه فصلاً جزماً، وكان هؤلاء يتمسكون دوماً بالآية الكريمة: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.

وإذا كان خلاف الظاهرية والفقهاء قد حدد مذاهب الأمة في الفقه، فإنه قد سبق للأمة أن انشطرت من قبل إلى مذهبين متناحرين فيما يتصل بأمر العقائد منذ أيام الصحابة وذلك إبان ظهور الخوارج، فقد اختارت الأمة مؤازرة العقل للنقل، وقدرته على تقييد النص وتخصيصه والتوقف فيه، فيما صرح الخوارج بعبارتهم المشهورة (لا حكم إلا لله).

إن عبارة لا حكم إلا لله بسيطة وواضحة، ولكن الإمام علياً رضي الله عنه رفض هذا الشعار الساذج وقال فيه: (كلمة حق يراد بها باطل).

لقد أدرك الإمام علي رضي الله عنه أن الخوارج تتجه إلى تعطيل العقل والتماس سائر التوجيه في الحياة من ظاهر النصوص، وهو أمر غير ممكن، شرحه بقوله: (أما إني أعلم أنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يريدون لا إمرة إلا لله، أما إنه لابد للناس من أمير، يجبي الخراج ويكتب الديوان وينكأ العدو)!!.

وبذلك فقد رسم الإمام علي ملامح الوعي بالحاجة إلى التجديد والاجتهاد في وجه التيار الظاهري الذي يرى التناقض بين العقل والشرع ضرورة، وأن المطلوب هو تحكيم الشرع نظراً لقصور معارفنا ووهن عقولنا.

إن السمة التي ميزت فكر الخوارج هي ارتكازهم على مبدأين اثنين:

الأول: تحكيم ظواهر النصوص، ولو أدى ذلك إلى نتائج متناقضة، أو معاندة لمقاصد الشريعة نفسها.

الثاني: رفض الآخر، إذ أسقطوا مقولة الاختلاف، وجزموا بتلازم الاختلاف في الرأي مع اختلاف الحق في ذاته، وقد أدى بهم ذلك إلى خيار تكفير الآخر، وهدر دمه، بل وعدم قبول توبته.

وهكذا فإن الخوارج هم الذين تبنوا الفكر الظاهري، وطبقوه عسكرياً، قبل أن ينحسر بعدئذ إلى فتاوى ورؤى يقدمها غلاة الفكر الظاهري، ولو كان لنا أن نستعير مصطلحات عصرنا الحاضر، فنحن أمام منهج واحد، تجلى في جناحين: الأول: الجناح العسكري، وهو الخوارج، والثاني: الجناح السياسي: وهم دعاة الظاهرية ومنظِّروا الفكر الظاهري.

ويقوم الفكر الظاهري على أساس أن النصوص – من كتاب وسنة – قالت كلمتها في كل شيء، وأن دور العقل ينحصر فقط في فهم هذه النصوص وفق ظواهرها، وأن قياس ظاهر النص على أمر لم يتناوله النص مباشرة إنما هو عبث وافتئات على الله ورسوله، وأن في النصوص من الإعجاز والبيان ما يقطع الحاجة إلى وجود أي مصدر تشريعي آخر، ويستدلون لهذا المعنى بظاهر بعض نصوص الكتاب والسنة:

{ما فرطنا في الكتاب من شيء}، {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء}، {كتاب فصلت آياته ثم أحكمت من لدن حكيم خبير}، {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.

غير أن الظاهرية لم تتبلور كمذهب شامل، يقول كلمته في المسائل كلها إلا على يد علي بن أحمد 384-456هـ، المعروف تاريخياً باسم ابن حزم الظاهري، فقد صنف ابن حزم كتابين كبيرين الأول: الإحكام في أصول الأحكام، وهو في تقرير أصول الظاهرية، والثاني: المحلى، وهو في تقرير فروع الفقه الظاهري.

ويجب هنا الاعتراف بأن ابن حزم وإن كان صارماً في التزام النص، ولكنه رفض بالتالي توسيع نطاق النص، والقياس عليه، فجعل دلالة النص محصورة بما دل عليه الظاهر، وأتاح للعقل حق الاجتهاد فيما سكت فيه النص، وبذلك فقد أباح الموسيقا والفنون والغناء والفلسفة التي ظلت في عرف المتعصبين حراماً وإثماً، وهو بذلك لا يشبه الظاهرية في زماننا الذين يرون أن النص قد حسم القضايا كلها ولم يبق أمامنا إلا الاتباع.

إن حجج الظاهرية كانت حاضرة دوماً من ظاهر النص ولكن الأمة رفضت تاريخياً هذا الخيار وصارت إلى إحياء مقاصد النصوص وليس الوقوف عند ظواهرها، وقد تجلى ذلك في اعتماد مصادر الشريعة الكثيرة كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وشد الذرائع وغيرها وهي كما لا يخفى مصادر زائدة على الخطاب الخارجي: لا حكم إلا لله، وهو ما كان يفهم منه تماماً عبارة: لا حكم إلا بالكتاب والسنة، ومن الجلي أن الأمة اختارت مذهب الفقهاء أيام المجد الحضاري وانحسر بذلك مذهب الظاهرية.

لقد بات الواجب أن نعترف أن هذه الروح المتسامحة التي سادت البلاد الإسلامية وبشكل خاص الأندلس خلال الحضارة الإسلامية الذهبية تتعرض اليوم لانتكاسات رهيبة، ويتم تحريم مصادر العقل جميعاً تحت عنوان وجوب العمل بظاهر الكتاب والسنة، وبذلك تغيب المقاصد وتحضر الدلالات الظاهرية، ويغيب الوعي ويحضر التقليد.

إن شعار الحكم بالكتاب والسنة وهو شعار بات مشهوراً في سائر الحركات الإسلامية لا يعبر على الإطلاق عن روح الانفتاح والتعددية التي مارسها الفقهاء المسلمون في عصر المجد الإسلامي، وهو يتناقض بحدة مع الدولة الحديثة، ومع أن كل الدول الإسلامية بلا استثناء تشرع للحياة من مصادر العقل المعروفة كالاستحسان والعرف والاستصلاح ولكن السادة الواعظين لم يتزحزحوا عن الشعار القديم، ولا زالوا يعتقدون أن العقول ضلال والنص عصمة، ولا أدري لماذا نفترض التناقض بين النص والعقل، فيما سبق أعلام الإسلام الكبار إلى التشريع بالمصادر العقلية خارج النص، ولعل الإمام ابن رشد قد لخص المسألة بقوله: الوحي نور والعقل نور والنور لا يطفئ النور.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني