هل تتحول تجربة الشتات السوري إلى نقطة انطلاق جديدة؟
توزع السوريين في الشتات لم يكن مجرد حركة جماعية بحثاً عن مأوى بعيداً عن جحيم الحرب، بل هو انعكاس لصراع أكبر يمتد إلى أعماق الهوية والمجتمع. في هذه المرحلة التاريخية الحرجة، لم يكن الانتقال خياراً بل ضرورة فرضتها الظروف القاسية، التي دفعت الآباء والأمهات إلى التفكير العميق في مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. إذ أُجبروا على ترك منازلهم ومدنهم بحثاً عن الأمان والاستقرار في أماكن جديدة بعيدة عن الوطن.
اللافت في أمر شتات السوريين أنهم رغم قسوة الرحلة وصعوبتها، لم يقتصر نجاحهم على البقاء فحسب، بل استطاعوا إعادة بناء حياتهم من جديد، لم تكن هذه العملية سهلة، فالسوريون الذين فرّوا إلى أوروبا وحتى إلى الدول المجاورة كتركيا ولبنان والأردن، واجهوا تحديات جمّة، سواء في تعلّم اللغة، أو التكيّف مع الثقافة المحلية.
ومع ذلك، برهن الكثير منهم على أن الإرادة القوية والرغبة في تحسين ظروفهم ومستقبل أبنائهم هي أكبر قوة دافعة لتحقيق النجاح، من خلال العمل الجاد، والانخراط في التعليم، وسوق العمل، كي يتمكنوا من بناء مستقبل أفضل لأبنائهم، ويتجاوزوا الحواجز التي كانت تبدو مستحيلة في البداية.
لكنّ النجاح الفردي في الشتات يقابله فشل جماعي في المشاريع المشتركة، على الرغم من قصص النجاح الفردية، إلّا أن هناك فجوةً كبيرة بين ما يمكن تحقيقه على المستوى الشخصي، وما يُفترض أن يتحقق على مستوى الجماعة، المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي حاول السوريون بناءها في الشتات غالباً انتهت إلى الفشل. هل السبب هو غياب روح التعاون والعمل الجماعي؟ أم أن الخلافات العميقة والانقسامات السياسية التي رافقت الأزمة السورية انتقلت مع السوريين إلى أماكنهم الجديدة؟
إن سوريا اليوم ليست بحاجة فقط إلى أفراد ناجحين في الخارج، بل إلى رؤى جماعية ومشاريع مشتركة تتجاوز المصالح الشخصية، وتصب في بناء مستقبل أفضل للبلد. نحن لا نتحدث هنا عن التعاون السطحي أو المؤقت، بل عن تأسيس حركات جماعية تعتمد على الحكمة والتفكير الاستراتيجي، هدفها إعادة بناء المجتمع السوري على أسس متينة. إن سوريا تعاني اليوم من ضعف في الهياكل السياسية والاقتصادية، وحل هذه الأزمة لن يكون عبر الأفراد فقط، بل عبر عمل جماعي منظم يتجاوز الخلافات ويصب في صالح الوطن. على السوريين في الشتات أن يدركوا أن القوة الحقيقية تكمن في التكاتف والعمل المشترك، وهذا لا يعني التخلي عن هويتهم الفردية، بل توظيفها ضمن إطار جماعي يخدم قضية الوطن، إذا لم نعمل جميعاً من أجل سوريا فإن كل النجاحات التي تحققت في الخارج قد تصبح مجرد إنجازات عابرة لا تؤثر في مصير البلد.
من منظور استراتيجي، العمل الجماعي ليس فقط ضرورة لإنجاز أهداف كبيرة تتجاوز قدرة الفرد، بل هو أيضاً حاجة لضمان استدامة النجاحات الفردية وتعزيزها. في التاريخ، هناك العديد من الأمثلة التي تُظهر كيف تمكّنت المجتمعات التي واجهت ظروفاً مشابهة من النجاح من خلال الوحدة والعمل الجماعي. السوريون أمام فرصة تاريخية، حيث يمكنهم استثمار تجاربهم الفردية في بلاد المهجر لبناء جسور تعاون تمكنهم من إعادة بناء المجتمع السوري على أسس أقوى.
المفارقة في الشتات السوري تكمن في أن الكثير من السوريين وجدوا أنفسهم يحققون إنجازات فردية في المهجر أكبر مما كانوا يتوقعونه داخل الوطن. إلا أن تلك الإنجازات تبقى محدودة التأثير إذا لم تُترجم إلى جهود جماعية. لماذا لم تنجح المشاريع الجماعية حتى الآن؟ ربما السبب يعود إلى انعدام الثقة بين الأطراف المختلفة، أو ربما إلى ضعف التواصل والتنسيق بين الفاعلين السوريين في الشتات.
من الضروري أن يفكّر السوريون في هذه المرحلة كيف يمكن تحويل النجاحات الفردية إلى قاعدة جماعية قادرة على إحداث تغيير حقيقي، كما أن السؤال الذي يجب أن يطرح الآن هو: كيف يمكن بناء مجتمع سوري جديد يعتمد على النجاحات الفردية ليكون نواة لبناء مستقبل مستدام لسوريا ككل؟
في الختام، يمكن القول إن الشتات السوري لا يمثل مجرد حالة ثابتة أو قدر محتوم، بل هو مرحلة انتقالية تحمل في طياتها فرصة حقيقية لإعادة تقييم الماضي وصياغة مستقبل أكثر إشراقاً، فالتحديات التي واجهها السوريون في بلدان الشتات كانت بمثابة حافز دفعهم نحو تحقيق نجاحات فردية لافتة. لكن هذه النجاحات، مهما كانت عظيمة على المستوى الشخصي، تحتاج إلى أن تتضافر ضمن إطار جماعي لتتحول إلى قوة قادرة على إحداث تغيير حقيقي.
إن تحويل التجارب الفردية إلى طاقة جماعية يتطلب رؤية جديدة، تتجاوز الانقسامات والصراعات الداخلية، التي أعاقت نجاح المشاريع السورية الجماعية في الشتات، فالوحدة والتعاون هما السبيل لتحقيق مستقبل أفضل ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى المجتمع السوري ككل. بذلك، يمكن للسوريين في الشتات أن يبنوا على نجاحاتهم الفردية لتعزيز التعاون والعمل المشترك، وخلق مشاريع جماعية قادرة على تحقيق تطلعاتهم وأحلامهم، وكذلك إعادة بناء سوريا على أسس قوية ومستدامة.