fbpx

هل الطائفيّة حلّ للأكثرية في سوريا؟

0 1٬982

قد يبدو صادماً للقارئ الكريم مثل هذا السؤال أو طرحه، ولربّما استنكر وشجب على اعتبار أن هذا يفترض توجّهاً محتملاً للأكثرية السكانية في سوريا أو اتّهاماً صريحاً لها، والحقيقة غير ذلك تماماً.

استهلالاً، جرت عادة الكتّاب أن يدرسوا معاني المفردة لغة واصطلاحاً، وهذا دون مراء، جهد مهمّ ليس في تأصيل الكلمة فحسب بل إجلاسها على كرسيّ المعرفة للنظر إليها من خارجها وتفكيك قوّتها النفسيّة على المتلقّي، والحقّ أن اللغة العربية كانت محايدة تجاه لفظة الطائفة ولم تمنحها أي بعد إبستمولوجي، فقط هي تعني الجزء من الشيء كما جاء غير مرّة في القرآن الكريم والأدب العربي (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) سورة النور 2، وفي التراث نجد: طائفة التجار وطائفة أهل الحرف وغيرها. وقد كان لعالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر” قصب السبق في فض الاشتباك المعرفي بين مفهوم الكنيسة كرعيّة وعقيدة في الوقت ذاته وبين الفرقة بوصفها تطويراً لمفهوم سوسيولوجي يفسّر ماهيّة الجماعة الدينية الملتزمة بنمط ديني معيّن، وبالتالي التمييز بين المفردة الخالية من الأحمال الإيديولوجية وبين الفرقة الدينية. لكن لو أردنا معايرة المسألة من زاوية سايكولوجيّة فإننا نجد الطائفية انغلاقاً أنانيّاً على ذات الجماعة وانفتاحاً مصلحياً على ذوات الآخرين، وبهذا فإن الطائفية تفعل عكس الدين، فالدين من حيث هو وصفة خلاص إلهية من العذاب، تقوم الطائفية على الاستعداد النفسي لتعذيب الآخرين عبر حرمانهم من مصالح الجماعة. وحين يكون الدين فعلاً يزدهي بالتبشير والفرح بهداية الناس وتكريس الإخاء الإنساني كي يكونوا إخوة في الجنّة تكون الطائفية فعلاً متسلّحاً بروح الحفاظ على ذات الجماعة وأعرافها وقيمها وحدودها الاجتماعية، وكذلك حين تقوم تعاليم الدين على الحبّ تقوم الطائفية على الكراهية، فالدين قلبه جاذب وقلب الطائفية نابذ.

رغم ذلك للطائفية سحر نفسي غريب إذ تدغدغ الغرائز الأولى للإنسان في البقاء وحفظ النوع، كما أن لها طبيعة كاريزماتية مميزة تتشهّى دفاع الإنسان عن خصوصيته ونمط حياة أهله وأجداده والظهور الزائف بمظهر الفرسان المقاتلين لمصلحة قومهم ضد عاديات الآخرين.

وأنا أجزم بأن كل فرد في هذه الحياة بحكم عوامل التربية والثقافة يمتلك جرعة منها، وهي لدى بعضهم عظيمة ولدى بعضهم الآخر لا تكاد تذكر، لكنّها في صراع دائم مع الوعي والضمير وكلّما علا كعب أحدهما على الآخر هيمن على الفكر والسلوك، تماماً كما هو الصراع بين (الأنا الأعلى) خزان الوعي والضمير والأخلاق و(الهو) مرجل الغرائز والغضب والشهوات.

وإذا ما أردنا أن نركّز قليلاً في الواقع الثقافي والاجتماعي لمنطقتنا التي استيقظت على أكبر صدمة تاريخية في حياتها، وهي تزاحم الهويات على بوابة الحرية خلال السنين العشر الماضية زمنياً والحاضرة فكرياً ومعرفياً فالاستعصاء لا زال قائماً. وإني هنا أستميح القرّاء عذراً لتناول الأكثرية السكانية دون غيرها فالعرض هنا ليس كتاباً بل مقالاً يسيراً ذا فكرة محدّدة.

يغضب أهل السنّة دائماً من وصفهم بالطائفة الدينية بالقول المستعار من الأدبيات الإسلامية (نحن الأمّة ولسنا طائفة)، ولعلّ هذا القول هو ذاته ما قدّمنا له من الانغلاق الأناني والنبذ والاستعداد النفسي للعقاب. لكنّ بحثاً أكثر عمقاً يخبرنا بأن السنّة تنطبق عليهم كل ما ينطبق على مواصفات الطائفة بصرف النظر عن عددهم الهائل وانتشارهم في العالم، فبعد الصراع الأموي الهاشمي على السلطة لأغراض سياسية برزت تيّارات فكرية وإيديولوجيّة معارضة لفكر المنتصرين كالخوارج والشيعة، وبدرجة أقل المعتزلة الذين تصدّى لهم (أهل الحديث) وهي التسمية الأولى الأصلية لأهل السنة ومنهم سفيان الثوري والإمام الأوزاعي ومناظراته مع غيلان الدمشقي. إذن بدأت تتلامح معالم هذا المذهب الرافض لأي ابتداع سواء في فهم النصوص أو استنان تصورات جديدة للعقيدة الإسلامية متسلّحين بالنصوص قطعية الورود والثبوت في القرآن والسنة النبوية، وبهذا فقد عملوا حرّاساً للعقيدة بمنع أي تبويب لظهور مدارس تأويلية متأثرة بفلسفة الإغريق والهنود بحسبان أنها تسعى للعبث بصحيح الدين الإلهي، دون كبير اكتراث بأن ذلك الدفاع المستميت من أهل الحديث آنذاك ساهم بقتل فكرة جوهريّة في الإسلام وهي أحقيّة الخلافة لجمهور المسلمين عبر الشورى لا حصرها في قريش، وللنكتة التاريخية كان ذلك مطلب الخوارج. وربّما لو انشغل آنذاك أهل الحديث ليس فقط في مجابهة الفرق الإسلامية واهتمّوا بالسياسة ومساءلة الحاكم، لكان المسلمون أوّل من يقيم النظام الديمقراطي في العالم أجمع خصوصاً وأن الإسلام لا يميّز بين الناس على أساس الطبقة والعرق والجنس كما فعلت “ديموقراطيات” روما وأثينا.

بعد ذلك قُدّ مصطلح (أهل السنة والجماعة) في عصر الخليفة العباسي المتوكّل الذي وضع حدّاً نهائياً للمدارس الفكرية التي لا تؤمن بما آمن به السلف، لتصبح بنود المذهب السنّي أكثر تمظهراً فيما بعد على يد الخليفة القادر بالله الذي وضع ما عرف بـ (البيان القادري) الذي تم توزيعه على الفقهاء والقضاة وحظي بإجماعهم وتصديقهم بأن كلّ إيمان بالله ورسوله ما عدا هذا الإيمان باطل.

السنّة في سوريا:

تعيد الثورة السورية إلى الأذهان التفكير في قضيّة الطائفيّة بإلحاح بسبب انفجار الوعي الكامن لدى المجموعات البشريّة المشكلة لبنية هذه المجتمعات والتي عجزت عن تشكيل نسيج حقيقي بل ظلت تتمازج بينها تمازج الزيت بالماء، ولا تخفى على العارفين أسباب ذلك. والحقّ وإن كان السنّة في سوريا هم العمود الفقري لخلق الدولة واقتصادها وعلومها وفنونها وفلسفتها، إلّا أن النظام الأقلّوي الطائفي في سوريا باستبداده ونزعته المتعجرفة وجرائمه خلال سنوات الثورة خصوصاً، جعل من السنّة أقلّية مهزومة مكسورة الكبرياء.

ولهذا كلّه وردّاً على ما اعتبروه غبناً تاريخياً لحقوقهم وافتئاتاً على كرامتهم برزت منذ عسكرة الثورة نزعة طائفية لدى جمهور السنّة تسعى للانتقام من هذا النظام بأي ثمن، ولأن الشعور الطائفي يكبر ككرة الثلج فقد عززه انكفاء معظم الطوائف السورية بمجاميعها لا أفرادها عن الانخراط في مشروع الثورة، ما أفقده طابع الثورة الشعبية العارمة الكابحة للطائفية والدافعة للروح الوطنية.

لكن من جهة أخرى، تعالوا نعود بطريقة فلاش باك إلى المناخ النفسي الذي رافق انطلاقة الربيع العربي، والذي خلا تماماً على الأقل في وعيه الظاهر من أي حسّ طائفي أو انتقامي من أي جماعة سوى من جماعات الحكم، وهذا ما صبغ الثورة السورية أيضا يوم خرجت بأروع وأعظم شعارات الوحدة الوطنية في لحظات وجدانية يعجز الشعراء عن وصفها. والسؤال هو ماذا كان يريد الشعب السوري آنذاك؟ الجواب حتماً هو إسقاط منظومات القهر والفساد وإحلال منظومة جديدة تطلق الحريات وتحفظ الكرامات وتخلق الرفاه وتحرس الحياة والفرح.

وخلال أملنا بأن يحصل التغيير ولو بعد حين، ماذا لو خيّم الشعور الطائفي على الأكثرية وظل مستمرّاً؟ ومن حقّنا أن نتخيّل ذلك فـ “جرح الأسى لا ينتسى”.

حتما ستتجه الأكثرية إن حصل ذلك إلى بناء نظام سياسي يؤمّن مصالحها ويحفظ وجودها ويحميها من حكم استبدادي أقلّوي جديد، ولفعل ذلك تحتاج الأكثرية إلى بناء نظام صلب متين لا يتداعى بنيانه ما يعني أنه سيكون نظاماً ديكتاتورياً جديداً، سرعان ما ستئن منه الأكثرية قبل الأقلّيات. كيف لا؟ والنظم الاستبدادية تسعى لخلق جماعتها الخاصة من الموالين لها في الاستخبارات والاقتصاد والجيش وسائر أدوات القمع وسوف تحرم باقي فئات الشعب منه لأن مناصب الدولة لا تتسع للملايين من الناس، وهذا ما رأيناه في أنظمة القذافي وحسني مبارك التي كانت تنتمي للأكثرية. عندها سوف يعود الشعب كلّه للتفكير بالثورة على هذا النظام الجديد، والعودة للمربّع الأول قاسية جداً بحق الشعوب التي بذلت أعظم التضحيات.

يمكن لجرح “الأسى أن ينتسى” بسمو الوعي وإدراك أن مصلحة السوريين هي بإقامة نظام مدني ديمقراطي يمنع عودة أي استبداد كان ويقيم قطيعة فكرية وسياسية وقانونية مع فكرة الأكثرية والأقلية على أساس طائفي ليستبدلها بالأكثرية والأقلية على أساس سياسي وحزبي، واعتماد قيم وأعراف ودستور جديد للدولة يمحو الآثار النفسية والثقافية الكارثية لصالح التعايش والخير المشترك، عدا ذلك فسوف تكون سياستنا كمن يطلق النار على قدميه.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني