نظام الأسد وثانوية الشعب
يدعي النظام السوري في كل حدث أو مناسبة تتاح له سياسياً وإعلامياً، أنه ممثل الشعب السوري الشرعي والوحيد، وأن بقاءه حتى اللحظة في سدة الحكم هو نتاج الالتفاف والدعم الشعبي له وحوله. وذلك في سياق رفضه الاعتراف بعمق الأزمة السورية وبحقيقة المجريات الميدانية، وإنكاره المتواصل للثورة السورية أو حتى الاحتجاجات الشعبية وانتشارها على الساحة الجغرافية والسكانية السورية، نظراً لمعاني هذا الاعتراف السياسية، التي تطعن في شرعية النظام التمثيلية بالحد الأدنى، وتفتح الباب أمام حق الشعب في خلق إطار سياسي وقانوني واجتماعي موثوق، يفرز قيادة ونظاماً جديداً يجمع السوريين ويعبر عنهم ويعنى بهم.
لكن وبغض النظر الآن عن أهمية تفنيد مزاعم النظام تلك، وتفكيك أسس خطابه الكاذب، نلمس في الآونة الأخيرة مدى فجاجته في إهمال وتهميش الشعب السوري، وعدم اكتراثه بمصيره الفردي والجماعي على حد سواء. وهي مظاهر قديمة جديدة، يمكن بسهولة تتبع انعكاساتها التاريخية في أكثر من مرحلة وأكثر من مناسبة. غير أنها اليوم تظهر بفجاجة منقطعة النظير، وتحمل في طياتها بوادر لكارثة إنسانية خطيرة سوف يدفع الشعب السوري ثمنها الآني والمستقبلي، موتاً وتشرداً وفقراً، مثل رفع الدعم عن بعض السلع الغذائية الأساسية، وتراجع دور الدولة الخدمي، وإهمال أو بالأصح تجاهل حقوق السوريين العاملين في القطاعات الاستثمارية الإنتاجية أو الخدمية الممنوحة لبعض الجهات المحتلة لسورية اليوم، كالإيرانيين والروس، والأهم أو بالأصح والأخطر هو تجاهله المطلق لخطر انتشار فايروس كورونا على صحة وسلامة السوريين المقيمين في مناطق سيطرته حتى الآن.
طبعاً تستحق جميع الأمثلة التي ذكرت آنفاً تسليط الضوء عليها، وتحليلها ومعالجتها بكل جدية ودقة، لنتائجها المباشرة على حياة وقدرات قطاعات واسعة من السوريين، وهو ما أتمنى على الجهات الإعلامية المعنية بالشعب السوري إيلاءها قدراً كبيراً من الاهتمام والمتابعة، انطلاقاً من محورية الإنسان ومصلحة السوريين في المنطلقات التي خرجت منها الثورة والاحتجاجات السورية في العام 2011. لكن ونظراً لضيق مساحة المقالة وصعوبة المرور على جميع هذه الأمثلة، ونظراً كذلك لتباين تأثيرات كل منها، أجد أن الأولية الآن تتمثل في خطر انتشار فايروس كورونا في مناطق سيطرة النظام، ما يوحي ببوادر كارثية على حياة السوريين المنكوبة أصلاً، وعلى الاقتصاد السوري المنهار أصلاً أيضاً.
فكما هو واضح اليوم من أخبار انتشار الفايروس حول العالم، في الدول المتقدمة ذات الإمكانيات الجبارة، وفي الدولة الهشة ذات الإمكانيات المحدودة أو المعدومة، نلحظ تصاعداً كبيراً في معدلات الوفاة اليومية نتيجة عجز الدوائر الصحية عن متابعة أعداد المصابين الكبيرة، أي نتيجة سرعة انتشار الفايروس ومحدودية أجهزة التنفس وغرف العناية الفائقة وأسرة المشافي عموماً مقارنة مع أعداد المصابين الفعلية أو المحتملة. الأمر الذي دفع بغالبية دول العالم إلى فرض تدابير وقائية عديدة للحد من انتشار الفايروس بالدرجة الأولى، بعضها وصل إلى حد الإغلاق الكامل والشامل، وبعضها الآخر عبر إغلاق جزئي من ناحية، وفرض معايير صارمة بما يخص أماكن التجمعات أو التماس والتقارب المجتمعي من ناحية أخرى، وهو ما مكن الدول، أو الأنظمة الصحية من التحكم بمعدل انتشار المرض، وبالتالي بأعداد المصابين إجمالاً، ومنه بأعداد الإصابات التي تتطلب رعاية صحية خاصة أو دقيقة، من أجل حماية المواطنين من ناحية وبغرض الحفاظ على الدورة الاقتصادية من ناحية ثانية.
إذاً لا يعنيني الآن أوليّات النظم الحقيقية الكامنة خلف فرضها للكثير من التدابير الصارمة، سواء كانت الأولية اقتصادية أم إنسانية أو حتى أمنية، بقدر ما تؤكد هذه التدابير على مدى تداخل البعد الاقتصادي بالبعد الإنساني، وهو ما يفرض حمايتهما معاً من أجل الحفاظ عليهما معاً، فلن تستمر العجلة الاقتصادية في ظل مجتمع مأزوم صحياً، والعكس صحيح فلن ينجو مجتمع متعاف صحياً إن كان مأزوماً اقتصادياً. وهو ما لم يقم به النظام السوري ولو بحده الأدنى، أي لم يحم الاقتصاد كما لم يحم الشعب، لأنهما خارج دائرة اهتمامه واكتراثه أصلاً، وليس ذلك نتاج ضعف إمكانيات النظام الحالية أساساً، التي قد نتفهم تبريرات بعضهم لها، رغم تحمله أيضا مسؤولية حصولها كاملة أو شبه كاملة.
حيث نعلم جميعاً مدى سوء قدرات النظام الصحية وغير الصحية اليوم، وبالتالي يمكن تفهم عجز النظام عن التعامل مع المصابين بالفايروس أو حتى بسواهم من المرضى، كما نعلم حقيقية الوضع الاقتصادي المتردي، ما يحد من قدرة النظام على فرض الإغلاق الشامل والكامل، فالشعب منهك وعاجز عن تأمين قوت يومه بالأحوال العادية، فكيف له تأمينها إن توقفت العجلة الاقتصادية المعطوبة أصلاً، وخزينة النظام فارغة أو شبه فارغة، وبالتالي فهو غير قادر على مد السوريين بأبسط الأساسيات الغذائية في فترة توقف العجلة الاقتصادية إن حدث إغلاق شامل. وعليه فمن الممكن تفهم رفض النظام لخيار الإغلاق الشامل، فلا الشعب قادر عليه اليوم، ولا النظام أيضاً، ولا بديل عن دوران ما تبقى من عجلة اقتصادية محلية عرجاء.
بيد أن مكمن المصيبة الكبرى في عدم مبالاة النظام بشؤون السوريين عموماً ومنها الصحية، إذ لم يكلف النظام نفسه عناء البحث عن حلول أو مخرجات أو إجراءات ذات تأثيرات اقتصادية محدودة أو شبه معدومة، وناجعة صحياً، أو بالأصح ناجعة على مستوى انتشار الفايروس، لاسيما في فترة عطلة العيد الطويلة نسبياً. فهو لم يمنع التجمعات الدينية أو الترفيهية أو الاجتماعية، كما لم يفرض أي قيود تلتزم بقواعد التباعد الاجتماعي في المناطق المكتظة كالأسواق والجامعات والمراكز الامتحانية والمواصلات العامة، وغيرها الكثير من الأماكن والمواقع المحتملة لانتشار الفايروس، ذات التأثيرات الهامشية على الاقتصاد السوري المتداعي، وعلى حياة المواطنين، لكنها ذات نتائج ملموسة على حماية حياة الإنسان بوصفه قيمة عليا وأساسية في البناء الوطني والبناء الاقتصادي.
لكن وكما أثبتت مئات التجارب الماضية، تنم سياسة النظام الراهنة تجاه هذا الفايروس الخبيث أيضاً عن الحقيقية التي حاول الكثيرون تجاهلها، والمعبرة عن عدم اكتراث النظام وعدم مبالاته بحياة أي من السوريين بغض النظر عن موقفهم السياسي والوطني والقومي، وبغض النظر عن عمرهم أو انتمائهم الجندري، وطبعاً بغض النظر عن انتمائهم الديني أو المناطقي، فالسوريون في عرف النظام ومفهومه مجرد حطب يلقي بهم في نيران معركته المركزية الوحيدة، معركة الحفاظ على كرسي الحكم وحماية نهبه لثروات سورية والسوريين ليس إلا.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”