نرجسية بوتين وصلفه.. عربةٌ تقود روسيا إلى الدمار
نرجسية بوتين وصلفه.. عربةٌ تقود روسيا إلى الدمار
د. هشام نشواتي
اعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن حربه ضد أوكرانيا ستكون نزهة عسكرية تستغرق بضعة أيام، جرى هذا الأمر في شباط 2022، ولكن الحرب لا تزال مستمرة، وأن نزيف روسيا العسكري والاقتصادي سيعيدها إلى مرحلة ما قبل الثورة البلشفية، حيث كانت الإمبراطورية الروسية آنذاك نمراً من ورق.
حسابات بوتين في حربه ضد أوكرانيا اعتمدت على عوامل غير مدروسة بدقة من قبل الكرملين، من هذه العوامل وأهمها، عدم الاهتمام بالوطنية الأوكرانية، هذه الوطنية انطلقت من قمقمها بعد سقوط المنظومة السوفياتية عام 1991، حيث أحس الأوكرانيون بحريتهم وباستقلالية شخصيتهم الوطنية بعيداً عن الهيمنة الروسية المسيطرة آنذاك على عموم شعوب منظومة السوفييت.
الوطنية الأوكرانية لعبت دوراً هاماً في مقاومة عنجهية بوتين وصلفه، ومنعته من احتلال العاصمة كييف، وهذا لم يكن في حسبان الروس.
كذلك حسابات بوتين العسكرية حيال شنّه الحرب ضد أوكرانيا لم تكن صحيحة، فالغرب كان يُدرك أن سقوط أوكرانيا بيد الروس يعني بدء استعادتهم لحلم إعادة بناء امبراطوريتهم السوفياتية السابقة، وذلك وفق قواعد سياسية واقتصادية وعسكرية جديدة ومناهضة للغرب وثقافته الديمقراطية.
الغرب يُدرك أن حرباً روسية ضد أوكرانيا ستفتح شهية ديكتاتورها الأحمق لحروب أخرى في أوربا الشرقية، فسيحاول بوتين استعادة الهيمنة على دول مثل لاتفيا ومولدافيا وإستونيا، وقد يقفز جيشه لاحتلال فنلندا وبولونيا، وهو بهذه الحالة يعيد انتاج التوازن الاستراتيجي العسكري بين بلاده وأوربا الغربية ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية.
بوتين الذي يرفض أن تكون بلاده جزءً من العالم الجديد، عالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يريد إعادة بناء دولة روسية عظمى، منافسة للغرب وتحديداً للأمريكيين، وهذا تقدير سياسي مبني على الرغبة والإرادة الفردية، ويفتقد إلى تقديرات واقعية لقوة روسيا الاقتصادية والعسكرية، والتي لا تمنحها أن تكون دولة عظمى.
ففي جردة حسابية واقعية بلغ الناتج المحلي للولايات المتحدة عام 2022 ما يساوي 25,35 تريليون دولار أمريكي، أي ما يعادل 24,4% من الناتج المحلي العالمي، وبلغ الناتج المحلي لألمانيا 4,26 تريليون دولار أمريكي وجاءت بريطانيا وفرنسا في المرتبتين السادة والسابعة بناتج محلي على التتالي لبريطانيا مقداره 3,38 تريليون دولار، و2,94 تريليون دولار لفرنسا، بينما الروس احتلوا المرتبة الحادية عشرة في مجموعة العشرين الاقتصادية، إذ بلغ ناتجهم المحلي في العام 2022 ما يساوي 1,83 مليار دولار.
هذه الأرقام تعكس التفاوت الكبير بين اقتصاد الغرب من جهة واقتصاد الروس من جهة أخرى، هذا التفاوت الاقتصادي سينعكس على القدرات العسكرية وغير العسكرية، مما يجعل الحرب الروسية ضد أوكرانيا حرباً خاسرة وفق منظور التطور الاقتصادي وقوة الاقتصاد.
إن الاقتصاد الأمريكي اقتصاد غير ريعي، ومتنوع ويعتمد على قوة الصناعة الأمريكية وحجم الإنتاج الزراعي الهائل للولايات المتحدة، وهذا حال اقتصاد دول الغرب الأوربي، بينما الاقتصاد الروسي يعتبر اقتصاداً ريعياً، لأن الناتج المحلي الروسي يأتي أغلبه من تصدير الغاز والبترول، وهذا عامل ضعف للاقتصاد.
إن حسابات الحرب الروسية ضد أوكرانيا لم تأت من حسابات واقعية وتقديرات حقيقية للقوة الاقتصادية والعسكرية الروسية، وإنما أتت من ذهنية المغامرة غير المحسوبة لشخص بوتين، الذي يظنّ أن امتلاك روسيا للسلاح النووي، وتهديده باستخدام هذا السلاح في حربه ضد الغرب، يمنحانه قوة في فرض رؤاه ومصالحه.
وفق هذه الحقائق، يمكن القول إن بوتين يغامر بسلامة روسيا واستقلالها، فهو يمضي إلى حرب تكلفتها العسكرية والاقتصادية باهظة، هذه الحرب التي ظنّ بوتين أنها نزهة عسكرية تستغرق أسبوعين أو ثلاثة أسابيع لا أكثر، أثبتت مجرياتها بعد قرابة عام على اندلاعها أنها حرب تستنزف قدرات روسيا الاقتصادية والعسكرية والبشرية، وهذا ما لا يحتمله الشعب الروسي.
إن الروس الذين تأكل حرب ديكتاتورهم اقتصادهم وأمنهم بدأوا برفضها، فعديد من ساحات موسكو شهدت مظاهرات مناهضة لهذه الحرب، فالغرب لن يسمحوا لروسيا بالانتصار، وهذا يعني مع صلف وعنجهية بوتين أن هذه الحرب هي نزيف مستمر لن يستطيع الروس إيقافه بدون وقف الحرب ضد أوكرانيا، وبدون الانسحاب من الأراضي الأوكرانية بما فيها الانسحاب من منطقة القرم التي احتلتها روسيا منذ سنوات عديدة.
الروس يدركون اليوم أن عنجهية بوتين وصلفه عدوّان حقيقيان لهم، ويجب أن تندحر البوتينية القائمة على ذهنية شمولية بائسة، فإذا لم تتم عملية إبعاد هذا الديكتاتور عن السلطة، فروسيا بدون أدنى شك ستنزلق إلى طريق تفككها كدولة.
الخطر الذي يحيق بالروس ليس هو الخطر الغربي كما يدّعي بوتين ونظامه الديكتاتوري، وإنما حماقة الحرب التي شنّها بوتين ضد أوكرانيا هي الخطر على الدولة والشعب الروسيين، وهي خطرٌ على النظام الديمقراطي في أوربا والدول المتقدمة اقتصادياً وسياسياً.
إن الروس مطالبون بفهم أن بوتين أوهمهم بأنه قادر على بناء دولة روسية عظمى، في وقت لم يستطع أن يفهم أن عتبة التطور التاريخي العالمي ما عادت تقبل بانقسام العالم بين قطبين كما كان الأمر أيام الحرب الباردة بين الغرب الديمقراطي والنظام السوفييتي الشمولي، وهذا يرتّب على جيشهم وعلى نخبهم السياسية والثقافية برفض هذه الحرب المدمرة لمستقبلهم ووجودهم، ويرتّب عليهم إزاحة سلطة الديكتاتور، والانخراط بعلاقات سلمية مع دول العالم.
بقي أن نقول إن حرب بوتين العدوانية ضد الشعب الأوكراني وضد استقلال الدولة الأوكرانية هي حرب ستلتهم نظامه السياسي، وستلتهم استقرار روسيا إن لم يتم وقفها ونزيفها، وهي لن تكون سوى حرب خاسرة نتيجة التفاوت الهائل بين اقتصاد روسيا وقوتها العسكرية التقليدية من جهة، وبين دول الغرب الديمقراطية واقتصادها وقوتها العسكرية الأكثر تطوراً.
عاجلاً أم أجلًا سيدرك الشعب الروسي ضرورة أن يثور ضد ديكتاتورية بوتين، وأن أمام بوتين أن يستسلم لحركه التاريخ وآمال ومستقبل شعبه ويضع أناه الذاتية وغروره المرضي جانباً وإلا فستكون هذه الأنا هذا الد اعداؤه التي ستسقطه حتماً. على فلاديمير بوتين الانضمام للمستقبل ولا يدع الإرث البالي التاريخي وأحلامه غير القابلة للتحقيق أن يجروه للوراء.
إن عليه المضي قدماً على المسار الصحيح الذي تطمح اليه شعوب ألعالم ومعها الشعب الروسي وعليه سلوك طريق الديمقراطية والحرية لشعبه، فالشعوب ولدت حره و لا يحق لاي سلطه أن تستعبدهم أو تتسلط عليهم أو تضطهدهم أو تسجنهم أو تمارس عليهم إرهاباً حكومياً سلطوياً.
إن أمام بوتين الاستسلام أو الهزيمة المرة الساحقة، لان لا أحد يستطيع الوقوف أمام حركه الشعوب وحركة التاريخ، فطريق النصر لأمثاله لا يوجد أصلاً. فليس هناك نصر مع الديكتاتورية والاستبداد، وسيلقن بوتين درساً قاسياً إذا لم يدرك ذلك.
فهل سنشهد قريباً سقوط البوتينية الخطرة على السلام والأمن الدوليين؟ والسؤال الآخر هو هل هناك أمل في أن يظهر غورباتشوف آخر في روسيا؟.. الكل ينتظر ذلك..