fbpx

نحو دستور سوري توافقي يرسخ دولة الحرية والكرامة

1 64

بعد عقود من الاستبداد والصراعات التي عصفت بسوريا، وانتصار الثورة على النظام البائد، يفتح الباب أمام مرحلة جديدة تتطلب إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، يكون فيها الدستور حجر الأساس لشرعية الحكم وضمان الحقوق والحريات. لكن كتابة الدستور ليست مجرد عملية قانونية تقنية، بل هي إعادة صياغة للعقد الاجتماعي الذي يحدد العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويؤسس لمستقبل السوريين المشترك.

وهنا يبرز التساؤل حول شكل الدستور الجديد والزمن اللازم لكتابته. فبين من يرى ضرورة إنجازه سريعاً لتثبيت الاستقرار، ومن يحذر من الاستعجال الذي قد يؤدي إلى دستور هش، وتتجاذب الرؤى حول آلية صياغته. هل ستكون العملية نخبوية، يقتصر فيها القرار على السياسيين والخبراء أم سلطوية تتحكم فيها القوى المسيطرة على الأرض أم أن الفرصة متاحة لصياغة دستور توافقي يعبر عن الإرادة الشعبية، ويؤسس لدولة قائمة على الحرية والكرامة؟

إن نجاح هذه العملية يتوقف على مدى قدرة السوريين على تجاوز خلافاتهم، والاتفاق على مبادئ مشتركة تضمن حقوق الجميع، وتحول دون إعادة إنتاج الاستبداد أو الانقسام. والسؤال كيف نصل إلى دستور تُأسس فيه الدولة على أسس عادلة ويعبر عن إرادة الشعب السوري؟

العقد الاجتماعي السوري

لطالما كان العقد الاجتماعي حجر الأساس في بناء الدول الحديثة، فهو الذي يحدد العلاقة بين السلطة والمجتمع ويمنح الشرعية للحكم. في سوريا، لم يكن العقد الاجتماعي مستقراً أو متفقاً عليه، فقد فرضت السلطات المتعاقبة دساتير لم تعكس الإرادة الشعبية الحقيقية. من دستور 1950 الذي عُدَّ أكثر ديمقراطية، إلى الدساتير التي صيغت لاحقاً لتعزيز هيمنة السلطة، ظل السوريون محرومين من المشاركة الحقيقية في تقرير مصيرهم. اليوم، ومع انهيار البنية السياسية التقليدية، تبرز فرصة لإعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس التوافق والهوية الوطنية المشتركة، بحيث يكون الدستور الجديد انعكاساً لطموحات جميع السوريين، وليس وثيقة تُفرض من طرف واحد.

شروط استعادة العقد الاجتماعي السوري

لا يمكن الحديث عن عقد اجتماعي جديد دون تحقيق شروط أساسية، أولها الحرية، بحيث يكون للسوريين الحق في التعبير والمشاركة السياسية دون خوف من القمع. وثانيها الاستقرار، إذ إن أي عملية دستورية تحتاج إلى بيئة آمنة تتيح النقاشات الواسعة وتضمن تنفيذ الدستور لاحقاً. أما ثالثها، فهو تمثيل إرادة الشعب، بما يعني أن لا يُختزل الدستور في تفاهمات بين النخب السياسية، بل يكون نتاجاً لحوار وطني شامل يعكس تطلعات مختلف الفئات والمناطق.

الثقافة الدستورية: نشر الوعي الدستوري

من العقبات الأساسية أمام كتابة دستور حقيقي هو ضعف الثقافة الدستورية لدى كثير من السوريين، نتيجة عقود من الاستبداد التي جعلت الدستور مجرد نص شكلي لا يؤثر في حياة الناس. لذلك، فإن بناء وعي دستوري جديد يمثل خطوة جوهرية في أي عملية تغيير. فالناس بحاجة إلى إدراك أن الدستور ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو الإطار الذي يحدد حقوقهم وواجباتهم ويرسم معالم دولتهم المستقبلية. غير أن هذه الثقافة لا يمكن فرضها من أعلى، بل تحتاج إلى نقاشات عامة ومنصات مفتوحة تتيح للناس فهم قضاياهم الدستورية والمشاركة في تشكيلها، مع تصحيح المفاهيم الخاطئة التي رسختها الأنظمة السابقة حول الدستور ودوره.

المشاركة المجتمعية في العملية الدستورية

إشراك المجتمع في صياغة الدستور ليس مجرد شعار، بل ضرورة لضمان شرعية الدستور واستدامته. إذ كلما زادت المشاركة الشعبية، كلما كان الدستور أكثر تعبيراً عن الإرادة الجماعية، وأقل عرضة للطعن أو الإلغاء لاحقاً. لتحقيق ذلك، لا بد من أدوات واضحة، مثل الاستفتاءات العامة، والمؤتمرات الوطنية، والحملات التوعوية، والمنصات الرقمية التي تسمح للسوريين داخل البلاد وخارجها بالمساهمة في النقاش الدستوري. غير أن هذه العملية تحتاج إلى وقت كافٍ، إذ لا يمكن كتابة دستور يعكس تطلعات ملايين السوريين في أسابيع أو حتى أشهر قليلة. بل هي عملية تمتد عبر سنوات من الحوار والتفاوض والتعديلات المستمرة حتى الوصول إلى نص يحظى بقبول واسع.

وفي النهاية، التجربة السورية مع الدساتير السابقة تحذرنا من مخاطر الدساتير الشكلية التي تُفرض من السلطة أو تقتصر على تفاهمات ضيقة بين النخب. المطلوب اليوم هو دستور توافقي يعكس الإرادة الشعبية، لا أن يكون مجرد وثيقة جديدة تكرّس الانقسامات القائمة. صحيح أن العملية الدستورية قد تكون طويلة ومعقدة، لكن الاستعجال في إنجاز دستور غير ناضج لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الأزمات السابقة. ما تحتاجه سوريا هو دستور يؤسس لعقد اجتماعي جديد، يعبّر عن مصالح جميع السوريين، ويمهّد الطريق لسوريا الجديدة بلد الحريات والحقوق.

1 تعليق
  1. أمل النعسان says

    يعطيك العافية استاذة ميسون محمد

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني