ميلاد مجيد.. المسيح المكرم، تراث سوريا العميق
أقدم على صفحات نينار خالص التهنئة وأصدقها للمسلمين والمسيحيين بيوم الميلاد المجيد الذي تحتفل به الإنسانية، الذي صار دون أي منافس بداية تاريخ العالم، ولا زال التقويم الذي تأخذ به سائر أمم الأرض، وهو يرتبط بوضوح بالسيد الناصري النبيل الذي عاش ومات في سوريا الكبرى وكرز فيها عظاته وهديه ونوره.
ولكنني أشعر بالأسى أنني لن أجد من أخاطبهم في هذا الشرق البائس بعيد الميلاد، فقد تعرض المسيحيون في العقدين الأخيرين لأفظع هجرة تمت في التاريخ، ومع أن نسبة المسيحيين في سوريا والعراق كانت تتجاوز عشرة بالمائة قبل عقود ولكن أشد الإحصاءات تفاؤلاً اليوم لا تزيد نسبتهم عن 4 بالمائة وهو واقع مرير ومؤلم علينا الاعتراف به ومواجهته.
لمصلحة من يتم تهجير المسيحيين من سوريا والعراق؟ وتفريغ الوطن من لون جميل ظل خلال التاريخ يسجل لوناً من التنوع والتسامح والاعتدال؟
لن أتحدث عن السياسة الدولية وتحالفات الدول الكبرى، بل سأتناول الأمر من زاوية واحدة وهي مسؤوليتنا ككتاب وباحثين في شرح القضية المسيحية وتقديمها للعالمين.
قناعتي أن أول خطأ يمارسه المسلمون والمسيحيون على السواء هو تكريس الانتماء الغربي للمسيحيين، حيث يتم اعتبار روما وبيزنطة وأفينون وجنوة وفلورنسا عواصم المسيحية في الأرض، وأن المسيحي مسكون من داخله بالولاء لإيطاليا أو اليونان أو فرنسا، وأنه طارئ على هذه الأرض بمشاعره وتفكيره.
وأجد من واجبي الأخلاقي والوطني والديني أن أكتب في رفض هذه المقولة وزيفها، فالسيد المسيح عليه السلام هو ابن هذه الأرض، وزنوده الفلسطينية السمراء هي أبرز ملامحه التي تعلق بها الصيادون الحوارنة في طبريا والذين صاروا فيما بعد الحواريين المكرمين الاثني عشر، وقد طالبت في محافل كثيرة بتصحيح الصورة النمطية للأيقونات المسيحية حيث يتم رسم السيد المسيح كما لو كان شاباً نرويجياً أو هولندياً أشقر الشعر أزرق العينين تنساب ضفائره على كتفيه الناصعين، وهي صورة لا تشبه في شيء سيرته الفلسطينية وزنوده السمراء وعيونه الكستناوية وشماغه الفلسطيني، وهو ابن هذا الشرق وفيه جذوره وأصوله وامتداده، ولا شك أن الحضارة الحديثة تنتمي إلى سائر شعوب الأرض، ولكل أمة إسهامها فيها ولكن الزمن هو منجز عربي سوري محض، فقد أصبح التوقيت الأمريكي والأسترالي والصيني والهندي والأوروبي يبدأ تاريخ العالم منذ ولادة السيد المسيح في بلدة الناصرة في سوريا الجنوبية قرب بيت لحم، وباتت الأمم على اختلاف أديانها تؤرخ تاريخها من اللحظة التي قال فيها السيد الفادي: السلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً.
ومن جانب آخر فإن الكنائس الشرقية هي بنت الأرض وهي تنتمي بوضوح إلى العواصم التاريخية للمسيحية في أنطاكية والرها ونصيبين والقدس ودمشق والاسكندرية، إضافة إلى كرسي القسطنطينية، وهذه الكراسي المسيحية الأرثوذكسية نهائية، ولا تتبع أحداً، وهي بالغة التعقيد والبروتوكول في استقلاليتها وميزاتها، وحين يلتقي البطاركة فإنهم يكرسون بوضوح استقلال الكنائس التاريخية ويقدمون صاحب القسطنطينية تحت عنوان متقدم بين متساوين، وقد تم الاتفاق على ذلك نظراً للرمزية التي تشكلها القسطنطينية التاريخية خاصة أن هذا الكرسي الهائل بات لا يملك سوى قدر محدود من الأتباع.
وحين تلتقي القيادات المسيحية المشرقية فإنها ترفدك بعشرات البراهين التي تؤكد دور الكنيسة الشرقية والمشرقية بشقيها الخلقيدوني واللاخلقيدوني في تأييد الحكم الإسلامي لبلاد الشام والعراق وتفضيلهم العرب على الروم، ويذهلنا البطريرك عيواظ بطريرك السريان في العالم إلى أبعد من ذلك ويصرح في حديث كتبه خاصة لصحيفة النهار أن الفتح الإسلامي لبلاد الشام كان إنقاذاً للمسيحية في الشرق وإنهاء للتغول البيزنطي والروماني على المسيحي وقد أعاد لهم الانتماء للمسيح السوري بشرف وفخر.
أما الكاثوليكية التي تختار عادة الارتباط النهائي بكرسي بطرس في روما، وتمنح البابا صلاحيات مطلقة في تحديد الإيمان والعقيدة، وتكرس الفاتيكان عاصمة للإيمان المسيحي، فإنها تدرك تماماً المشاعر الشرقية للمسيحي الكاثوليكي ولذلك فقد منحت 22 كنيسة شرقية كاثوليكية لوناً من الاستقلال، فالكنيسة المارونية مثلاً كاثوليكية في عقيدتها ولكنها كنيسة مستقلة في قرارها واختيار بطركها ومجالسها، مع أنها لا تخرج من توجه البابا في قضايا الإيمان، وبذلك فإن المسيحي الكاثوليكي أيضاً يشعر بالانتماء لهذه الأرض كأرض تاريخية مقدسة عاش فيها المسيح وإن كان لا يكتم عقيدته في الدور المركزي للفاتيكان وكنيسة بطرس.
أما البروتستانت عموماً فهم ليسوا أهل تقديس لأرض ولا لشعب وهم يتصرفون عبر مجالس السينودس المحلية التي تختار سياسات الرعية بناء على المصالح المقدرة وتعتبر الكنيسة مركزاً للإيمان والمعرفة والحياة عبر أداء ديمقراطي.
بالطبع لا أكتب هذا لأنزه المسيحيين من أي طموح تغريبي، فمن السذاجة أن ننكر الرغبة العارمة للمسيحيين عموماً بالتوجه إلى الغرب والبحث عن حياة أفضل، وهو شعور يشارك فيه المسلم بالقدر نفسه، بعد أن صارت بلادنا سجوناً كبيرة للحسرات والخيبات وباتت الهجرة مطلباً مشروعاً للإنسان، ولكنني أكتب ذلك لأؤكد أن الشعور الوطني تجاه التراب السوري عند المسيحي هو هو عند المسلم، وأن من الإهانة التاريخية والخطأ المنهاجي التمييز بين المسلم والمسيحي في شعور الانتماء لأرض سوريا التاريخية.
ولن أمضي في شرح هذه الوقائع دون التحفظ الشديد على كل تلك المشاعر المنفعلة بالتاريخ، فالحضارة الإنسانية اليوم قد أنجزت بشكل حقيقي في عواصم كثيرة قيام مجتمع الإنسان والمواطنة الذي يتسامى على كل شعور ديني أو طائفي أو عرقي، ويقيم قيم المواطنة على أساس الفصل والحكم في كل أشكال بناء الدولة، ويأمر بصرامة بنبذ مشاعر الفوقية الدينية والعرقية وما يتلى في سياقها من مزامير.
يجب أن نوقظ هذه المشاعر في خطابنا الإعلامي والديني، لنسهم في منح المسيحي بالذات الطمأنينة في أرضه وتاريخه، ونسهم في إطفاء جذوة التغريب التي تزدهر في عصر الفشل العربي، فالأرض هنا تحتاج لتعدد الألوان والأعراق والديانات، ولا شك أن إقصاء اللون المسيحي في المجتمع السوري سيؤدي تلقائياً إلى مجتمع أكثر تشدداً وأقل تسامحاً، ولن يؤدي على الإطلاق كما يتصور بعض المتشددين إلى مجتمع أكثر انسجاماً وتلاحماً، وهو الشعور اللئيم الذي صرح به النظام السوري حين طفش نصف الشعب السوري نتيجة مواقف سياسية وصرح على أنقاض الراحلين وعذاباتهم بخطاب كراهية مقيت ينشح عنصرية وقهراً، صحيح أنه تم تهجير نصف الشعب!! ولكننا أصبحنا مجتمعاً أكثر انسجاماً!
المسيحية جزء من هوية الأرض، ومن المؤسف أن الخطاب الثوري التقدمي البعثي قد عمد إلى طمس الهويات تحت عنوان بناء سوريا الموحدة ولكنه جعلها بنص دستوري غريب ملكاً لحزب البعث، وهو توجه فئوي واضح وضوح الشمس، وراح يغير أسماء القرى والبلدات لتتفق مع مشروعه القومي، وفي سياق ذلك قام مثلاً بتغيير اسم وادي النصارى ليسميه وادي النضارة وهو عبث لا معنى له إلا طمس الهويات، مع أن هذه الهويات تعيش في العالم كله متجاورة متزاورة حيث تقدم الهويات أروع ما لديها لإناء المجتمع وبعث الحيوية والنشاط والأمل فيه.
الحفاظ على الوجود المسيحي في سوريا مسؤولية دينية وأخلاقية ومجتمعية، ومن أوضح دروس التاريخ أن عمر بن الخطاب رفض أن يدخل العسكر إلى القدس، وجاء بنفسه من المدينة إلى القدس، ودخل المدينة في غاية التواضع والاحترام، وأقر بنفسه البطريرك سفرنيوس حاكماً على المدينة ولم يشأ أن يصلي في كنيستهم خشية أن يغلبهم عليها المسلمون، وأعلن في صيغة لا تحتمل أي تأويل أن القدس مدينة الله والصلاة، وأنها يجب أن تبقى خارج طيش السياسة حتى نحافظ على هذا التنوع الجميل في حضارتنا الواعدة.
كلما قرات أرقام رحيل المسيحيين شعرت بالحزن، ومع أن وطننا صار طارداً لكل موهبة وكفاءة ولكن رحيل المسيحي يحمل خسارتين اثنتين فهو خسارة مواهب سورية تحتاجها الحياة، وهو رحيل لون حيوي في الفسيفساء السورية يسهم في وهن رقصات اللوحة والتحول إلى مجتمع اللون الأسود القاتم ولطمياته وتطبيراته وكآبته.