fbpx

موقف الفقه الإسلامي في مناهضة عقوبة الإعدام

0 123

تتزايد اليوم الصيحات المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام، وقد أطلقت الأمم المتحدة إطاراً للتوقيع على اتفاقية دولية لمنع عقوبة الإعدام، وتشير تقارير المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي أن 141 دولة في العالم قد ألغت حكم الإعدام أو أنها أوقفت تطبيقه بالكامل، من أصل 193 دولة في العالم.

ولا تزال الدول الإسلامية وعلى رأسها إيران للأسف تتصدر القائمة العالمية في تنفيذ حكم الإعدام، وحسب منظمة العفو الدولية “أمنستي” في تقريرها السنوي لعام 2022 الصادر في 16/5/2023 عن حالات الإعدام حول العالم، تم في إيران إعدام 576 شخصاً وفي البلاد العربية تصدرت السعودية قائمة الدول العربية الأكثر تنفيذا لأحكام الإعدام حيث بلغ وقوعات الإعدام 196 شخصاً!.

والمدهش أن وقوعات الإعدام في العالم كله لعام 2022 لم تتجاوز 883 شخصاً، ومن المخجل أن دولتين مسلمتين حققتا أكثر من 87% من وقوعات الإعدام في العالم كله!!!.

كما سجلت بقية الأرقام في مصر 24 والعراق 17 وسوريا 24 واليمن 17 شخصاً.

وتشمل الإحصائية كل دول العالم إلا الصين التي لا تنشر أي أرقام عن وقوعات الإعدام فيها التي تقدر بالآلاف.

وتطرح هذه الأرقام أسئلة صادمة حول موقف الحكومات الإسلامية من الدم، وأسباب الاستهتار الهائل بحياة الإنسان بالمقارنة مع وقوعات الإعدام في الدول الأخرى.

ولكن الأسوأ من ذلك هو حمامات الدم التي تمارسها النظم الاستبدادية في العالم الإسلامي وتقوم فيها بقتل المعارضين تحت بنود قوانين العقوبات المختلفة توجب على رجال الفقه والقانون المبادرة إلى البحث عن سبيل لوقف هذه الدماء وسد الذرائع التي يتوسلها الاستبداد لإراقة الدماء، وهذا أدق تطبيق لقاعدة سد الذرائع التي أقرها الفقهاء المجتهدون في العصر الذهبي للفقه الإسلامي، وطبقوها بمهارة ودقة، ولكننا لا نزال اليوم نتغنى بها ونرويها دون أن نمتلك الجرأة على تطبيقها في ساحة الواقع.

ولكن بعيداً عن هذا الواقع المريض، هل الإعدام هو بالفعل خيار الفقه الإسلامي، وهل يعتبر النضال الحقوقي لوقف تنفيذ عقوبة الإعدام عملاً مناهضاً للفقه الإسلامي؟.

يشرفني أن أقدم هنا طرفاً من بحث فقهي قمت بإعداده لمناقشة موقف الشريعة الإسلامية من عقوبة الإعدام وقد اعتمدته المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي وطبعته بالإنكليزية والفرنسية، وتبنت نشره في الهيئات الحقوقية في العالم.

ومن اللافت أن النص القرآني لم يذكر كلمة الإعدام على الإطلاق وإنما ذكر كلمة القصاص وهي كلمة مختلفة تماماً، فالإعدام هو القتل، أما القصاص فهو العدالة وهذه العدالة قد تتحقق بالقتل وقد تتحقق بالعفو وقد تتحقق بالدية وقد تتحقق بالصلح والتفاوض.

وكذلك فإن عقوبة القصاص وردت في القرآن الكريم مرة واحدة على القتل العمد فقط، ومرة على الجروح في شريعة بني إسرائيل، ولكن الأنظمة في البلدان الإسلامية توجب عقوبة الإعدام في عشرات الجنايات الأخرى بدون سند من القرآن الكريم، وعلى سبيل المثال فإن قانون العقوبات السوري يحكم بالإعدام في نحو اثنتي عشرة جريمة أخرى معظمها يطال المعارضين السياسيين، ولا شك أن ذلك يمثل أكثر أشكال الانتهاكات لحقوق الإنسان وشروط الدين ومنهج الفقه الإسلامي في حقن الدماء.

وباختصار فإن هناك اثنتي عشرة طريقة مارسها الفقه الإسلامي لمناهضة عقوبة الإعدام، وكلها محل اعتبار وإعمال في الفقه الإسلامي، وهي تعكس تشوف الفقه الإسلامي لحماية الدماء وحصر العقوبة تحديداً باشد الجرائم خطورة وبشاعة وإغلاق الباب بالكلية أمام العابثين بأرواح الناس وحياتهم.

أولاً: مصطلح القصاص وليس الإعدام

إن النص القرآني لم يذكر كلمة الإعدام وإنما ذكر كلمة القصاص، والفرق بينهما كبير، فالإعدام هو إلغاء الحياة، ووسائله معروفة من القتل أو الخنق أو الصعق أو الحرق أو الشنق، أو غير ذلك مما دأب الحكام على إيقاعه بالمحكومين.

أما القصاص فمعناه التماس العدالة والمقاصة، أي المساواة والمكافأة، وهي تحصل بالعفو وتحصل بالدية، وتكون بالقتل عند استيفاء شروط كثيرة ومعقدة وبإصرار أولياء الدم جميعاً.

ثانياً: الإعدام والإيجاد شأن الله وحده

إن مصطلح الإعدام مصطلح غير وارد في أي من نصوص القرآن أو السنة أو حتى الفقه الإسلامي، وهو يشتمل على شبهة اعتقادية غير مقبولة، فالإيجاد والإعدام شأن الله تعالى ولا طاقة للعبد بالخلق أو بإنهاء الخلق، وإنما هو شأن الله تعالى وحده.

ثالثاً: دعوة أولياء الدم إلى العفو عن القاتل

إن آيات القصاص تضمنت دوماً الوعيد الشديد والزجر الأكيد لكل من قام بجريمة القتل، ولكنها تتوجه دوماً إلى أولياء الدم بالحث على العفو والمسامحة:

في سورة البقرة: فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، ومنها ما رواه أنس بن مالك: «ما رفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو، وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يصاب بشيء في جسده، فيتصدق به إلا رفعه الله درجة، وحط به عنه خطيئة».

رابعاً: اعتبار حد القصاص أمراً لا يتجزأ

وبذلك فإنه يجب إسقاطه حال عفو أي فرد من أولياء حق الدم

خامساً: منع الدولة من إيقاع القصاص إذا لم يكن هناك حق خاص

القصاص من القاتل حق لأولياء المقتول، فلو غاب أولياء المقتول أو عفا واحد منهم فإنه ليس للدولة أن تقيم حكم القصاص على القاتل، بل يجب أن يصير إلى عقوبة بدلية، وهذا أيضاً من أساليب الشريعة في مناهضة عقوبة الإعدام.

ولا شك أن منع الدولة من القصاص بدون ولي دم يقطع الطريق على كثير من المستبدين الذين يبررون القتل بأسباب مختلفة، تحت مسميات مختلفة.

سادساً: مبدأ ادرؤوا الحدود بالشبهات

هذه القاعدة عامة في أصول القضاء في الشريعة، وهي في الأصل حديث نبوي كريم، ونصه: ادرؤوا الحدود بالشبهات وأقيلوا الكرام عثراتهم، وفي رواية ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.

وقد فرع الفقهاء على هذه القاعدة إسقاط حد القصاص على القتل القصد دون العمد، وعلى القتل إذا كان للقاتل شبهة دفاع عن النفس أو شبهة التصرف حال الغضب الشديد أو الفزع الشديد أو الغيرة الشديدة.

وهذا أصل جرى عليه القضاء في البلاد العربية تحت عنوان الأعذار المخففة، ولا شك أن الأعذار المخففة لا تسقط العقوبة عن المرتكب، وإنما تسقط القتل.

ومن هذا الباب أيضاً شبهة ورود العفو عن الجاني من أحد ولاة الدم، ومن هذا الباب سقوط القصاص إذا كان في أولياء الدم قاصر ثم مات قبل أن يرشد.

سابعاً: تشريع الدية واعتباره حقاً شرعياً

ومن وسائل الشريعة لمناهضة عقوبة الإعدام تشريع الدية، واعتبارها حقاً ثابتاً لأولياء الدم تشجيعاً لهم على العفو والمرحمة، وتجاوز ما كان.

ولا شك أن تشريع الدية فيه حافز قوي ليمضي أولياء المقتول في العفو، خاصة أن هذه الدية لم تعد هنا مجرد عفو أو صدقة بل صارت حقاً تنزل به القرآن، وحثت عليه نصوص الوحي، وألزمت المحاكم بتحصيله بصفة الدين الممتاز المقدم على ما سواه من الديون.

ثامناً: دعوة العاقلة للإسهام في دفع الديات

وفي موقف آخر لمناهضة الشريعة لعقوبة الإعدام فإن الشريعة أبطلت العقوبة في حالة القتل الخطأ، فلا يجوز قتل القاتل إذا لم يثبت القصد والعمد في جريمته، ولكن الشريعة شرعت الدية رعاية لأولياء الدم، وتشجيعاً لهم لإسقاط حقهم في طلب القصاص.

تاسعاً: مصرف الغارمين

خصص القرآن الكريم مصرفاً صريحاً وواضحاً من مصارف الزكاة للغارمين، وذلك في آية مصارف الزكاة الشهيرة: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم.

والغارمون هم أولئك الذين يتحملون الديات ليؤمنوا عفو أولياء الدم، ويساعدوا في منع تنفيذ القصاص عن الجناة، والعدول إلى العقوبة البدلية.

فهؤلاء يستحقون نصيباً من مال الزكاة تدفعه لهم الأمة للمساعدة في دفع الأموال الكافية لعدول أولياء الدم عن القصاص والتحول إلى العقوبات البدلية.

عاشراً: تجوز الشفاعة في القصاص ولا تجوز في الحدود

وهذا ما أورده ابن نجيم في باب الفروق بين القصاص والحدود، ومعنى ذلك أن الحدود لا ينفع فيها شفاعة أحد إذا رفعت إلى القضاء، أما القصاص فإن الشفاعة فيه مقبولة، وفي الشرع حث القادرين على حمولة الديات، ولو لم يدفعها الجاني ولا عاقلته، واعتبار هذا المال من مصارف الزكاة المشروعة تحت عنوان الغارمين، قال تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين فمن تصدى للشفاعة في القصاص ودفع المال لأداء الديات حل له أخذه من مال الزكاة، وذلك لتشوف الشرع الكبير إلى العفو وترك عقوبة القصاص.

حادي عشر: تحريم الثأر وتجريمه

جاءت الشريعة بنصوص قاطعة واضحة في تحريم الثأر وتجريمه، ونصت الآيات البينات أن الثأر حرام بالمطلق، وأن قيام الأفراد بقتل القاتل مهما كانت المبررات يعتبر في عداد الجرائم قطعاً، وسمي هذا اللون من الجرائم الافتئات.

وفي الحديث: من قتل مؤمنا فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.

ثاني عشر: حق الدولة في وقف الإعدام

أكدت الشريعة على مسؤولية ولي الأمر في تنفيذ الحدود الشرعية والقصاص، ومسؤوليته في وجوب وقف تنفيذ هذه الأحكام لأدنى شبهة يراها عملاً بالقاعدة ادرؤوا الحدود بالشبهات، ومن الشبهات التي يتعين على ولي الأمر التمسك بها وجود بلاد إسلامية لا تطبق هذا الحكم، فيتعين عند ذلك أن ولي الأمر مأمور بأن يجري العقاب على ما هو أنفع للمحكوم عليه، ولا ينبغي أن يعاقب الجاني في عقوبة القتل في جرم لا يعاقب عليه بالقتل في دول إسلامية أخرى لها فقهاؤها وعلماؤها، ومن الممكن أن يمتنع ولي الأمر عن تنفيذ الحكم، استناداً إلى عدم توفر الإجماع عليه.

وتشبه الفتوى في الدماء حق أولياء الدم في استيفاء القصاص، فلا يكتفى برضا بعض الأولياء بل لابد من إصرارهم جميعاً، وكذلك لا يكتفى برأي بعض الفقهاء المخولين بالفتوى والقضاء بل لابد من صيغة إجماع بحيث لو رفض بعضهم التصديق سقط الحد ووجب التحول إلى العقوبات البدلية.

وبعد فهذه اثنتا عشرة سبيلاً سلكها الفقه الإسلامي لمناهضة عقوبة الإعدام، وذلك كله في العقوبة الصريحة المنصوص عليها في القرآن الكريم وهي عقوبة القصاص في القتل العمد عن سبق إصرار وتصميم.

وفي الواقع فلو لم يكن من سبب لمناهضة حكم الإعدام إلا استغلال الظلمة والمستبدين لهذا الحكم للتخلص من خصومهم كما يحصل اليوم بشكل مرعب لوجب على أهل الفقه والبصيرة أن يعمدوا إلى سد الذرائع كما أقره الفقهاء المالكية والحنابلة لوقف هدر الدماء.

مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ادرؤوا الحدود بالشبهات فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.

إن كاتب هذه السطور يتطلع إلى يوم لا يجد فيه القاتل أي ذريعة تحميه حين يريد ارتكاب القتل، حيث سيصبح القتل كله بما فيه القتل في عقوبة الإعدام المقررة قضاء عملاً إجرامياً، يطاله القانون والمحاسبة، وسيعلم الناس أن الروح هبة الله وعطيته، وأن نزع الروح عمل إجرامي مهما كانت مبرراته وموجباته، وعند ذلك فقط سيتوقف القتل الإجرامي الذي يمارسه الاستبداد تحت عنوان حماية الأوطان ونشر الأمان.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني