fbpx

موت الانتظار

0 25

سأطوي هذه الصفحة من دفتر ذكرياتي، وسأنسى هذه الكذبة. كم مرة أسمعتها لنفسي دون جدوى! لن تمحى من ذاكرتي تلك الليلة الباردة من ليالي كانون. كانت مستلقية على فراشها، بالكاد يتحرك بقايا جسدها لتقضي بعضاً من احتياجاتها أو لتتناول قليلاً من الطعام.

تجوب عيناها أرجاء المنزل لتستقر في نهاية المطاف عند باب الدار، عساه يفتح وترى غائبها عائداً.

هيهات، هيهات أن يعود من هاجر! مستحيلٌ وألف مستحيل.

لقد بات بيتها خاوياً، هجره من أحبتهم. سافروا، تركوها وحيدة، رغم أنها أحبتهم أكثر مني. كان لهم النصيب الأوفر من كل شيء: الحب، الحنان، الاهتمام. ومع ذلك رحلوا.

بقيت هي، وربما بقايا جسدها كانت تعاني بعضاً من أمراض الشيخوخة.

عندما عاد التيار الكهربائي، أشعلت لها المدفأة. ظلّت ترتجف على غير عادتها. شعرت بألمها الذي يزداد يوماً بعد يومٍ منذ رحل ولدها.

هي ككل النساء تحبّ ولدها، ويضنيها بعده رغم قسوته وجفائه.

لا، وجودي لا يسعدها. وجودي لأني فتاة لا لشيء آخر، فقط لكوني فتاة.

كانت فرحتها وفرحة العائلة عندما ولدت صبياً لا توصف. مجرد كوني فتاة، تمنّت لو لم تلدني.

جدتي وخالاتي ومعظم نساء مجتمعنا الذكوري (ميراث… وثقافة لن أغيّرها).

اقتربت منها: “انتظريني، سأبحث لك عن دواء. لن أتأخر.”

بصوت مرتجف لا يكاد يُسمع: “لن تجدي في هذا الوقت المتأخر صيدلية. لا تذهبي، لا حاجة لي بالدواء.”

“ما يدريك؟ ما تعرفين؟ قد أجد واحدة.
بس طوّلي بالك قليلاً..
انتظريني، والله العظيم سأرجع.”

نسيت حتى أن ألبس معطفي. أخذت مظلتي ومضيت. الشوارع مظلمة خاوية. حتى الكلاب لا يسمع نباحها من شدة البرد. الكل اختبأ في فراشه يلتمس دفئاً.

حاولت أن أتذكر أين أقرب صيدلية. يا الله، مغلقة! كنت خائفة من أن أبتعد كثيراً عن المنزل في هذا الوقت. أسعفتني ذاكرتي أن المشفى الوطني ليس ببعيد، ويبقى في كل الأوقات مفتوحاً. ومن المؤكد أنني سأجد دواءً يخفّف أوجاعها.

من شدة البرد والظلام، أصبح طريق المشفى طويلاً. ولا أمتلك الجرأة أن أركب سيارة أجرة وحدي بمثل هذا الوقت. وصلت أرتجف خوفاً أكثر من البرد. حصلت على دواء مسكن ومضيت.

كانت فرحتي بالدواء لا توصف، وفرحتي أكبر بكثير أن أحمل لها شيئاً يخفف من ألمها، شيئاً يشعرها أنني أحببتها. وتمنيت لو تعرف كم أحبها، وكم فعلت من أشياء فقط لكسب ودّها، مع أنها كانت تكرهني.

تكرهني لمجرد أنني فتاة. كانت تتمنى أن تنجب ولداً، لكنها أنجبتني.

عشت سنوات عمري أشعر وأرى وأسمع كرهها لي في تصرفاتها، في كلامها، في معاملتها. وأرى كيف كانت تتعامل مع ولدها دائماً. أحسست أنني فتاة وجدتها في الشارع، وندمت على تربيتي.

ربما تمنت لو عاشت زمن وأد البنات، لكن شاء الله أن أعيش.

زوجة ولدها الغالي المدلّل لم تتحمل قسوة العيش في هذه الظروف الصعبة، فأجبرته على السفر وعلى تركها.

وأنا في طريقي إليها، كانت كل الصور والذكريات السوداء تمر أمامي كأنها مقطع فيديو أشاهده على الجوّال.

كيف كانت تضربني وتحرميني من الكثير من الأشياء.

يا الله، الآن هي بحاجتي أنا، وولدها المفضّل رحل، تخلّى عنها وقت ضعفها.

كانت خطواتي تتسارع. لم أعد أمشي، كنت أجري كي لا أحد يراني.

دخلت وبأعلى صوتي: “لقد أحضرت لكِ الدواء! لقد أحضرت لكِ الدواء! ستشعرين بالراحة.”

لكنها جثة هامدة، جسدها باردٌ. لقد رحلت سريعاً قبل عودتي.

دنوت منها، وبكل قوتي أمسكتها وصرخت: “لقد قلت لكِ سأعود، والله العظيم لم أتأخر.
لماذا؟ لماذا لم تنتظري؟
لقد عدت ومعي الدواء. لماذا رحلت؟”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني