مهما كانت نتيجة الانتخابات: تركيا ”قوية“ ضرورة للسوريين في كل وقت.. لكن كيف؟
سيعود بنا المشهد الانتخابي التركي الحالي إلى زمن كانت فيها وثائق السوريين تحمل عبارة ”الدولة العثمانية“، قبل أكثر من 110 أعوام، حين اجتمع في بيت دمشقي قديم يعود لآل البكري، نخبة من المثقفين العرب السوريين، وكتبوا فيما بينهم وثيقة سوف تُعرف لاحقاً باسم ”ميثاق دمشق“، الذي تسبّب بولادته ”الاتحاديون“ الذين انقلبوا على السلطان عبدالحميد الثاني، والذين اتهموا السوريين في مثل هذا الشهر بالتآمر على إسطنبول، ليثبت بعد حين أن زعامات الاتحاديين أنفسهم هم من تآمر وليلاقوا مصيراً مشابهاً، ولكن بعد أن أسهموا بتفكك الدولة العثمانية كلها.
لم يكن المثقفون السوريون آنذاك يطلبون انفصالاً عن الدولة العثمانية، فمعظمهم يرتبط بعلاقات وثيقة مع تركيا، سواء كانت علاقات عائلية أو سياسية أو تجارية، ولم يكن لدى أي منهم اهتمام بتغيير ”الخليفة“، إلا أن الشريف حسين وبعد أن نقل له ولده فيصل الميثاق إلى الحجاز أعاد بوحي من لورنس آنذاك، صياغة النص حسب المصالح البريطانية، لا حسبما كان يريد السوريون، ومنذ تلك اللحظة وحتى اليوم، بقي ظلٌّ لـ ”طرف ثالث“ يتدخّل باستمرار لتأزيم العلاقة بين تركيا والسوريين والتشكيك بكونها ضرورة تاريخية وجغرافية وحضارية مشتركة.
وقفت تركيا منذ العام 2011 مع الشعب السوري، وحاولت وزارة خارجيتها إقناع رئيس النظام السوري عبر العديد من الزيارات إلى دمشق، آخرها لقاء في 9 أغسطس/ آب من تلك السنة، استمر نحو 6 ساعات، بينها 3 ساعات على انفراد، بالعدول عن الحل الأمني، الذي كان قد بدأ بتطبيقه؛ وكان ذلك الحل يعني قتل المتظاهرين واعتقال مئات الآلاف وتهجير المدنيين وقصف المدن والأرياف. لكن ذلك لم يجد نفعاً.
بعد ذلك رعت تركيا اللاجئين السوريين، الذين أصبح عشرات الآلاف منهم مواطنين أتراك، ومنهم ملايين السوريين على أراضيها وفي الشمال السوري الخارج عن سيطرة الأسد. لكن ”الطرف الثالث“ كان حاضراً، وكان على الأسد الابن أن يواصل ما أسّس له والده حافظ الأسد، حين سلّح ودرّب حزب العمال الكردستاني PKK وفتح له الأراضي السورية واللبنانية ليقيم معسكراته فيها ويشنّ الغارات على تركيا عبر الحدود الجنوبي لتركيا انطلاقاً من الأراضي السورية. ولم ينته ذلك إلا بضغط تركي كبير أدى إلى طرد الأسد للإرهابي عبد الله أوجلان ومن ثم الوشاية بمكان فراره لتقبض عليه تركيا وتحضره إلى سجنه الحالي في جزيرة إيمرلي.
أخذ الأسد يغذّي ميليشيا PKK من جديد وكلّفها بالسيطرة على المناطق الشمالية الشرقية التي انسحب منها باتفاقيات أمنية اقتصادية أبرمها مع قادتها الذين جلبهم من ”جبل قنديل“، ولتكون لاحقاً بندقية للإيجار استعملتها الولايات المتحدة الأميركية في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الإرهابي (ISIS).
أصبح لـ PKK إدارة ذاتية، وجيش ومؤسسات ومناهج تربوية، واعتقد زعماء هذه الميليشيا أنهم بإمكانهم الضغط على تركيا وعلى الشعب السوري للحصول على المزيد بعد أن أطلقوا على المحافظات السورية التي احتلوها اسم ”روج آفا“ أي ”غربي كردستان“. وباتوا يشكلون تهديداً على وحدة الدولة السورية معزّزين تمزيق العلاقات بين الغالبية العربية في شرقي الفرات وبين الأكراد السوريين أنفسهم. وكما يقول المثل التركي القديم ”الكلب الذي يمشي في ظلّ العربة يحسب أن ظلّها هو ظلّه فصار PKK يبحث عن مصالح أكثر مما يسمح له بها مشغّلوه.
أمام هذه الكارثة، تتلاقى مصالح السوريين، في الحفاظ على دولتهم وكيانهم فقط مع المصالح التركية، فمن دون الموقف التركي الذي يعيد الأمور إلى معادلتها الأولى ”ميليشيا كردية متمرّدة“ جلبت معها عبر الحدود مقاتلين أكراد من إيران وشمال العراق لتدعي أنها تقيم على أرضها التاريخية وتهدد الأمن القومي لسورية وتركيا معاً.
يكاد خطر PKK على الشعب السوري ومستقبل سورية يعادل خطر الأسد نفسه، لأن الأخير بطبيعة الحال، سوف يصرّ في النهاية على الظهور بمظهر القادر على بسط سيطرته على التراب السوري بكامله، ويفرض سلطة مركزية تتوهّم إمكانية تطبيق ”القبضة الحديدية“ من جديد. بينما لا مكان لمشروع PKK سوى عبر مواصفات الميليشيا، ولذلك فإن أي تفاهم حالي بين تركيا والأسد، وبالكثير من الحكمة التركية، سيكون بالضرورة مدّمراً لهذا المشروع الذي يمكن له أن يعمّم على كافة المناطق السورية إذا تم تمريره، وبالتالي ستنشأ دولة مفككة عرقياً وطائفياً على الحدود الجنوبية لتركيا تهدّد (كنموذج) دول الشرق الأوسط كلّها.
من جانبه يدرك التنظيم الإرهابي PKK أن هذا التقارب بين أنقرة والأسد يفقدها أهميتها لدى الأسد، وأن إطباقاً ثنائياً يوشك على الحدوث يشنّه عليها الجانبان.
في الوقت الذي تطمئن به تركيا المعارضة السورية التي تستضيفها بأنها ستكون حريصة دوماً على مصالح الشعب السوري وحقوقه المشروعة وأن الهدف الأساسي من هذا المسار هو التطبيع مع الدولة السورية لا مع النظام الحاكم فيها.
الانتخابات التركية برز فيها الموقف من إرهاب PKK جلياً في برامج الأحزاب والشخصيات المتنافسة كافة، وهو موقف أكبر من ألاعيب بعض السياسيين الخاسرين سلفاً، بحكم الرفض الشعبي الواسع لتهديد PKK والذي وصل به الأمر إلى الاعتداء على مراقبي أحد نقاط الاقتراع في مركز الراي للمؤتمرات بأمستردام. وهو يراهن على فوز أصحاب المواقف الرخوة تجاهه مثل كمال كليجدار أوغلو الذي ظهر نوّاب حزب الشعب الجمهوري الذي يقوده وهم يشاركون في جنازة أحد عناصر تنظيم PKK، ويبكون أمامها، (النائبة “غمزة إيلكيزدي” ونائب المدير العام في الحزب “سيزغين تانري كولو“)، أو ما كشفته صحيفة “أيدنليك” aydinlik من أن ”تحالف الأمة“ وبدعم كبير من كليجدار أوغلو وقّع اتفاقاً مع ”حزب الشعوب الديمقراطي“ الموالي لـ PKK يتضمن أربعة بنود في حال وصل إلى السلطة وأنه رضح لشروط PKK كاملة التي نقلها المندوب الكردي ميثات سنجار وهي تشمل تعيين شخص واحد أو شخصين من حصة حزب الشعوب الديمقراطي في منصب وزير، وإطلاق سراح بعض كبار المسؤولين داخل الحزب وعلى رأسهم صلاح الدين دميرطاش وغولتن كيشاناك وفيغن يوكسك داغ وليلى غوفن، بالإضافة إلى إعلان الحكم الذاتي في المناطق الكردية المهمة في تركيا وإعلان اتحاد في شمال سورية، وإنشاء حكم ذاتي في المحافظات الشرقية والجنوبية الشرقية بتركيا، وإدارات ذاتية في إسنيورت وكناريا وإسن تبه.
هو إذاً مشروع متكامل يشمل تغييرات في تركيا وسورية على حد سواء، وإذا كانت هذه الثنائية (تركيا – سورية) حاضرة دوماً في أذهان الانفصاليين الإرهابيين، فإنها ذلك يعود لكون تركيا ضرورة حقيقية للسوريين، كما هو حال السوريين بالنسبة إلى تركيا، والعلاقة الاستراتيجية الوثيقة معها مهمة في كل وقت، ومثلما كان أيّ متغيّر سياسي في إسطنبول يسمع صداه في دمشق قبل أكثر من قرن من الزمان، فإن أي متغير اليوم يحدث في الساحة التركية يصبّ حتماً لصالح أو ضدّ السوريين. والأمر محكومٌ دوماً بالمزيد من الحنكة من الجانبين للمرور من شهر أيار الصعب على كليهما.