fbpx

من يقف وراء إشعال فتنة بين حوران والسويداء

1 1٬550

لا نبالغ حين نقول إن العلاقات بين حوران والسويداء، أو (السهل والجبل) كانت على مرّ التاريخ الحديث لسورية مثالاً للأخوة، والاندماج والتعايش، والتي بلغت أوجها في الثورة السورية الكبرى بقيادة المجاهد الكبير المرحوم سلطان باشا الأطرش.. الذي توافقت جميع فعالات السوريين على أن يتولى القيادة، وما قامت به حوران من فعل ومشاركة ومساندة عززت تلك العلاقات الحميمة، ورسّختها لتكون أنموذجاً للوحدة الوطنية السورية.
على امتداد العقود ظلّت العلاقات بين المنطقتين متميزة لا تعرف التفريق والفرقة، ومندمجة اجتماعياً – عبر علاقات من الزواج والمصاهرة – وعشائرياً، وفي النخب والعلاقات التجارية وغيرها..
بعد الثورة السورية العظيمة، وحوران عاصمتها، وحوران أيقونتها تدفع الثمن غالياً لانتصار إرادة الشعب السوري في الحرية والعدالة والكرامة.. لم يتأخر الجبل عن المشاركة بكل الوسائل المتاحة، وتسيير قوافل الإغاثة والمعونات، وإمداد حوران بالمواد الضرورية وبأسعار لم تعرف الزيادة، والأهم من ذلك أن السويداء استقبلت ما يقرب من 600 ألف نازح سوري كان بينهم عدد كبير من أهالي حوران وقد وجدوا في أهالي السويداء الحضن الرحب، والضيافة التي اشتهروا بها، وما تزال عشرات العائلات من حوران (حتى بعد ما يعرف بالمصالحة) مقيمة في مناطق شتّى من محافظة السويداء. ناهيك عن انخراط عدد من الضباط (الدروز) والتحاقهم بالجيش الحر، والتوجه نحو حوران للمشاركة بواجب الدفاع عن الأهل، وحماية الثورة، ومعهم جمع غفير من الشباب، وقد استشهد الكثير منهم على أرض حوران وبقية الأرض السورية.
أطراف كثيرة أرادت اللعب بالنسيج الاجتماعي في (جبل العرب) ومحاولة اختراق مألوفه من التآزر، والدور التاريخي الذي كانت تقوم به مشيخة العقل، والوجهاء، والقوى السياسية الأصيلة في الحفاظ على وحدة المجتمع ومواجهة سياسات النظام الفئوية، والأمنية، وقد حاولت أجهزة المخابرات، بشكل عام، والمخابرات العسكرية بوجه الخصوص، العمل على تفكيك اللحمة الداخلية بزراعة العملاء والتابعين، وإنشاء عصابات التجارة بالمخدرات والسلاح، وصولاً إلى عمليات الخطف طلباً للفدية، والتشليح، وتلاقي تلك العصابات مع مثيلاتها في حوران اتفاقاً وتوازعاً وتنسيقاً.
لم يقتصر الأمر على ما قام به النظام السوري من أفعال خبيثة بل فتح الأبواب مشرعة لعدد من الأطراف والأذرع الخارجية التابعة لها، وكانت إيران حاضرة بقوة، خاصة عبر ذراعها التنفيذي الأكبر “حزب الله”، ووئام وهاب، والحزب القومي السوري، وجهات أخرى تدور في فلك إيران وأجهزة المخابرات، وقد واجه أهل السويداء (ممثلين بنخبهم وبمشيخة رجال الكرامة) تلك السياسات بالعمل على تماسك أبناء السويداء ومنع انجرارهم لتلك المخططات الخبيثة، ونجحوا في حماية عشرات آلاف الشباب من الذهاب للخدمة العسكرية بغية قتل إخوتهم في حوران وبقية المناطق السورية الثائرة، ووصل عدد الرافضين إلى نحو 43 ألف شاب، كما أن دور “مشايخ الكرامة” نجح في فرض ما يشبه الإدارة الذاتية للمحافظة، وهو ما دفع النظام المجرم للقيام بجريمة اغتيال رئيس تلك المشيخة “الشيخ وحيد البلعوس” في 4 أيلول 2015.. وحدثت انتفاضة السويداء إثرها وتم احتلال مقرات عدد من فروع الأمن، خاصة فرع الأمن العسكري، في محاولة لتطهير المحافظة من عناصر وأزلام النظام..
لم يكتفِ النظام بهذا الاغتيال، ولم يهضم انتفاضة أهل السويداء ضده، وحماية الشباب الرافض للتجنيد الإجباري.. فعمل على تحريك بعض العصابات باسم جبهة النصرة تارة، وعصابات البدو المرتبطين به تارة أخرى.. وصولاً للأحداث الأخيرة التي وقعت في 27/3/2020..
التوقيت مشبوه وله دلالات تتجاوز الحدث الذي جرى، حيث أن التاريخ يصادف ذكرى وفاة قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش، والمكان هو قريته القريا..
قد تبدو الأحداث، ورواياتها متشابكة ومختلفة، لكن تداعياتها يمكن أن تتجاوز ما ظهر على السطح..
الأحداث تبدأ بما قام به يحيى النجم (زعيم عصابة) من خطف اثنين من بُصرى الحرير (وهي المرة الأولى التي يجري فيها خطف أحد من بُصرى الحرير المجاورة للقريا)، ثم نشر فيديو مخلّ بالحياء لإثارة الناس واستثارة غريزة الثأر، والفزعة، وتفجير نفسه في البيت الذي لجأ إليه هرباً من محاولة أهل القريا محاسبته وإطلاق سراح المخطوفين (ومقتل صاحب البيت وجرح ابن عمه)، ثم تطورت الأمور إلى اشتباكات بين شباب من القريا وآخرين من بُصرى الحرير، ومقتل عدد من شباب القريا، واتهام الفيلق الخامس (فيلق المصالحات) بقيادة أحمد العودة بأنه المسؤول عن مقتلهم، وأنه نصب كميناً لهم، واستخدم أسلحة متوسطة وثقيلة، وسط روايات متعددة ـ وغير مؤكدة تماماً ـ عن التمثيل بالجثث، ووجود عدد من المخطوفين من شباب القريا.. ثم التقدّم باتجاه القريا نحو 3-4 كم وإقامة دشم فيها، وحكايا تنتشر عن النيّة لـ “غزو” القريا.. ثم موجة البيانات والقصائد متعددة الأشكال والخلفيات التي حاولت التأليب، والتحشيد..
الأكيد أن للأحداث خلفياتها، وللصراع، أو تنازع النفوذ بين إيران وروسيا دور مهم بما يجري، فالمصالحات التي رعتها روسيا، ثم أشرفت على إنشاء الفيلق الخامس، كانت تقتضي بإبعاد إيران عن المنطقة بمسافة تتراوح بين 70-90 كم وهو الأمر الذي لم يحدث، وروسيا هي المسؤولة وهي الضامن، فظلّ الوجود الإيراني قوياً وأخذ يتمدد باتجاه عموم السويداء ومناطق من حوران، بكل التشابكات الموجودة، ووجود “حزب الله” القوي، والتنازع بالولاء داخل صفوف النظام بين التبعية لإيران أو روسيا، وما يدفعه الشعب من ثمن غال..
لكن، ورغم الخسائر البشرية، وفقدان شباب لا ناقة لهم ولا جمل بهذه الصراعات والمصالح، ومحاولات بعض الأطراف تأجيج الخلافات، ونكئ هذا الجرح وتوظيفه.. إلا أن فعاليات السهل والجبل، بنخبها المثقفة والفاعلة، وبمشيخاتها ووجهائها تحركت بكل مسؤولية ووطنية لإيقاف هذه التداعيات، وحدثت اتصالات ولقاءات عديدة تكرّس رغبة الجميع بتعزيز اللحمة الوطنية، والعلاقة التاريخية بين السهل والجبل، ويعمل كثير من الخيّرين من المنطقتين على بحث ما يمكن، وما يجب عمله لتجاوز ما حدث، وتوضيح الحقائق عبر لجنة من الحكماء تتقصّى الحقائق، ومن خلال المبادرة المتواصلة لتولي أهل المنطقة زمام المبادرة، وإغلاق الأبواب أمام من يريدون استمرار الفتنة وتفاقمها..
الوطنية السورية العريقة تبرز بقوة هذه الأيام بين أهالي السهل والجبل، وإذ أتوجّه بالتحية للنساء والرجال الذين يواصلون العمل ليلاً نهاراً لوأد الفتنة وتكريس الطبيعي من العلاقات التاريخية.. فإنني مقتنع أن السهل والجبل سيبقيان عصيّين على كل من يحاول اللعب بالنار، وستتعزز أكثر تلك الحميمية، و”ربّ ضارة تكون نافعة”..

1 تعليق
  1. محمد says

    رائع كالعادة أستاذ عقاب

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني