fbpx

من القرداحة إلى نسرين

0 199

مجزرة التضامن التي ارتكبتها شبيحة شارع نسرين الطائفية في حي التضامن في دمشق ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فهذه الجرائم ارتكبت في كل مدينة وكل حي كل شارع وكل قرية من المدن الثائرة فقد شهدت محافظات سورية من درعا الى الحسكة آلاف المجازر الطائفية الوحشية، وهذه الجرائم ليست من قبيل التصرفات أو الأخطاء الفردية، وإنما هي سلوك متّبع وسياسة ممنهجة تديرها السلطة وتوكل أمر تنفيذها إلى عتاة المجرمين الطائفيين الذين أطلقت سراحهم من السجون من تجار المخدرات والقتلة.

بدايةً يجب التمييز بين أمرين عند التعاطي بمسألة الطائفية في سورية وهما: أن تركيبة الشعب السوري تتألف من عدة طوائف دينية ومذهبية وعرقية، وأن هناك فرق بين إثارة النعرات الطائفية وبين توصيف الأفعال والجرائم والممارسات ذات الأبعاد الطائفية فإثارة النعرات الطائفية أمر مرفوض ومجرّم قانوناً وبالتالي له أركانه القانونية ويجب أن تتوفر النية الجرمية في ارتكاب هذا الجرم أما التحليل والدراسة فأمر مباح بل أمر واجب إذا كان ضمن مشروع يسلّط الضوء على الأزمات التي تمسّ وجود شعبنا والبحث عن حلول مستقبلية لتفادي آثارها المدمرة.

العبور إلى الوطنية عبر إنكار الحالة الطائفية التي يمارسها تحالف الأقليات مع النظام هو هروب إلى الأمام وهو عبور غير أمن ولا يُعوّل عليه في بناء أي موقف وطني جامع، فالنظام اتخذ من شعار حماية الأقليات في سورية غطاء لتكريس سلطته الدكتاتورية القائمة على الطائفية والتمييز العنصري والطائفي والعرقي والمذهبي بين مكونات الشعب السوري ومنح هذه الأقليات حقوق منفصلة دائمة تختلف باختلاف الجماعات العرقية الأخرى تجاوزت مبدأ المساواة في التمتع بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو ممارساتها أدت الى تشكيل تحالف طائفي أقلوي مع السلطة، لا يمكن لأحدٍ إنكاره فالمرجعيات الطائفية الرسمية تمارسه وتوظف أبناء الطوائف في الحرب على الشعب السوري من خلال الترويج لهذه الحرب على أنها معركة مقدّسة كونها تستهدف الإرهاب “الإسلامي” الذي تصوِّره على أنه الخطر الوجودي الذي يستهدف وجودها، والطائفية في هذا التحالف نوعين:

الأول: طائفية أصيلة وهي تجمّع الاقليات الطائفية السورية المعروفة.

والثاني: الطائفية بالولاء وهذا النوع يدخل فيه المسلمين السنة الذي آثروا الانخراط في هذا التحالف إما لحماية مكاسبهم “السياسية أو الحزبية أو الاقتصادية أو مناصبهم العسكرية” وإما لتأمين حمايتهم عن جرائهم التي ارتكبوها سابقا سواءً أثناء الانقلابات العسكرية أو أثناء مجازر ثمانينات القرن الماضي ممن كانوا في تلك الفترة من ضباط أو جنود أو ميليشيات الكتائب الحزبية المسلحة أو من المخبرين السريين الذين تسببوا باعتقال عشرات الآلاف من الأبرياء الذي تم تغييبهم في السجون وممارسة أبشع أشكال التعذيب بحقهم وقتلهم تحت التعذيب أو عبر محاكمات صورية، وهؤلاء ليس من المنطق حسابهم على أهل السنة لانهم تخلّوا عن ارتباطهم بأبناء جلدتهم وآثروا الاصطفاف مع المجرمين.

وإن تشكيلة الميليشيات الطائفية وما يسمى تشكيلات الدفاع الوطني وتشكيلات الدفاع المحلي والقوات الرديفة لا تدع مجالاً للشك في وجود البعد الطائفي في تشكيلها الذي عزّزته ممارستها وطرق وأساليب تعاملها مع باقي السوريين.

إن محاولات كمّ الأفواه وكيل التهم بالطائفية لكل من يتعاطى مع هذه الحقائق بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية أو غيرها من الحجج ما هو إلا تكريس لهذه الحالة الطائفية، لأن هذا التحالف تورط بجرائم أكبر من جريمة إثارة النعرات الطائفية فقد ارتكب هذا التحالف كل أنواع الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب ضد أهل السنة وأهل الثورة وقد تحوّل افراد وقادة ومرجعيات هذا التحالف إلى مجرمين جنائيين عُتاة متوحشين ولم يبق هذا التحالف في إطاره السياسي الذي يمكن تبريره على انه ممارسة سياسية تقوم على المصلحة.

الجرائم والمجازر الطائفية ليست مجرّد ممارسات أو أخطاء فردية وإنما هي سياسة ممنهجة تديرها أجهزة السلطة أوكلت إلى عتاة المجرمين الطائفيين أمر تنفيذها ومنحهم الحصانة من الملاحقة القانونية، وعندما نتناول هذه الجرائم من وجهة نظر قانونية وسياسية فإن البحث عن الدافع وراء هذه الجرائم يصبح أمرا ضروريا لتكييف هذه الجرائم التكييف القانوني الصحيح.

ويعرف الدفاع فقهاً: “بأنه العامل النفسي المحرك للإرادة أو النشاط النفسي المتعلق بالغاية، أو الدافع النفسي المؤدي إلى ارتكاب الجريمة أو العامل الداخلي الذي يدفع إلى التفكير في الجريمة”.

ويعرفه المشرع السوري: “بأنه العلة التي تحمل الفاعل على الفعل أو الغاية القصوى التي يتوخاها”.

ويختلف الدافع عن القصد الجرمي بأن القصد الإجرامي هو العلم بطبيعة الفعل ونتيجته وظروفه، وإرادة تنفيذه وتحقيق نتيجته، بصرف النظر عن أهدافه ودوافعه.

لذلك فإن القصد واحد في جميع الجرائم، في الوقت الذي يتعدد فيه الدافع ويتغير من جريمة لأخرى، ففي جريمة القتل يقوم القصد دائماً على العلم بماهية القتل وطبيعة الفعل أو النتيجة التي يؤدي إليها، وإرادة إزهاق روح إنسان حي، أما الدافع فقد يكون الانتقام، أو التمهيد لسرقة، أو التخلص من خصم سياسي، أو الحفاظ على الكرامة والشرف.

وحيث أن الدافع يرجع أساساً إلى حالة ذهنية وطبيعية نفسية، ويقوم على الميل والعاطفة والتصور والتمثل، فهو اتحاد ظواهر نفسية وذهنية مؤثرة، أو هو اتحاد وتصور وشعور، والتصور هو الجزء الذهني المرتبط بالغاية، بينما الشعور هو الجزء النفسي وهو العنصر الحاسم في الإعداد للفعل. وحيث أن الجماعة “الطائفة” كيانٌ قائم بذاته ومتميز عن أعضائه، ويتصف من ثم بخصائصَ قد لا تنطبق على الأفراد، ومهما تُقدِّم من بيِّنةٍ لإثبات جودة هؤلاء الأعضاء، كل على حدة، فإن هذه البينة غير ذات صلة حين يتعلق الأمر بتقييم الجماعة، وحيث أن لكل جماعة خصائص مطلقة “تكوينية – عقائدية – فكرية”، وخصائص نسبية “شخصية – كمية” وخصائص مستقلة عن البنية “القوة والضعف” وخصائص معتمدة على البنية “الجودة والرداءة” كل هذه الخصائص في النهاية هي خصائص مؤثرة في تقييم الجماعة والطائفة باعتبار الارتباط العضوي بين الفرد والجماعة أو الارتباط المصيري عند تعرّضها لأزمات وجودية لذلك لا يمكن الفصل بين الطائفة وبين أفرادها الذين يمارسون وظائفهم ضمن مؤسسات النظام عبر قواعد وأسس التحالف مع السلطة، وما يزيد في مسؤولية هذه الطوائف وجود أبنائها على رأس المراكز السيادية الأكثر حساسية في صنع القرار أو تنفيذه، وإن سكوت المرجعيات الرسمية للطوائف عن هذه الممارسات الوحشية هي شراكة بالجرائم، وإن مباركة أفعال أبنائها الإجرامية هي جريمة أصلية.

وأغلب الدوافع التي برزت في أفعال هؤلاء المجرمين هي دوافع الحفاظ على “حماية الأقليات” وحماية هذا التحالف وعبر تطهير المناطق السكنية المختلطة من المكون السني وتهجيره، وكل الأفعال التي قام بها هؤلاء المجرمون هي أفعال عدوانية ولم تكن أبداً في أي حال من الأحوال من قبيل الدفاع عن النفس لأن العدوان يتجلى باستهداف الأبرياء العزّل في كل المجازر التي ارتكبت منذ بداية الثورة حتى اليوم.

ورغم أن القاعدة العامة تقضي بعدم الاعتداد بالدافع فيما يتعلق بقيام الجريمة، لكنّي أعتقد أن هذه القاعدة تبقى صالحة للتطبيق في حالة الجريمة الشخصية ولكن لا يمكن تجاهل الدافع الطائفي عندما تكون الجريمة هي جريمة دولة، فالدافع الطائفي في الجريمة الشخصية ظرف مشدِّد للعقوبة ولكن الدافع الطائفي لجريمة تمارسها السلطة يوجب إسقاط هذه السلطة ومحاكمتها.

وعليه فلا عبرة للانتماء الطائفي للناشط الذي عمل على توثيق هذه الجرائم أو الرافض أو المُستهجِن أو المندِّد لها، كما أنه لا لعبرة أيضاً لوجود ضحايا من طوائف أخرى قد تكون طوائف القتلة والمجرمين في تغيير طبيعة الجريمة شيئا لان الدافع علة شخصية مرتبطة بشخص القاتل وليست مرتبطة بصفة وانتماء المقتول والتي تعتبر من قبيل القرائن والأدلة على توافر الدافع، فكم من مجرم طائفي قتل صديقه أو أخيه أو أخته أو قريبه أو جاره لخروجه عن الطائفة؟ وكم من أحرار الطوائف السورية الذي آثروا الانحياز للثورة عانى من اضطهاده ونبذّه من قبل الطائفة وإعلان البراءة منهم من قبل شيوخها ومرجعياتها واتهامه بالخيانة وهدر دمه واستباحة أمواله؟.

مجزرة حيّ التضامن تقتضي من كل حرٍ الوقوف في وجه المجرمين الطائفيين وتسمية الأمور بمسمّياتها وإسقاط أيّ حجة أو ذريعة يمكن تمرير هذه الجرائم عبرها فالقاتل واحد من القرداحة إلى نسرين ومن آذار إلى تشرين، ومن ثلاثة وستين الى الفين واثنين وعشرين، ولأن آثار هذه الجرائم لن تزول على المدى القريب بل تحتاج إلى سنوات طويلة من التخطيط والعمل تبدأ من الاعتراف بالحقائق ومن ثم تشخيص المشاكل تشخيصاً حقيقيا وفهم أسبابها ودراسة نتائجها وأولى الخطوات التي يجب العمل عليها إسقاط هذا النظام المجرم وتفكيك هذا التحالف الطائفي المجرم، ومن ثم إقامة العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين ومنعهم من الإفلات من العقاب وتعويض الضحايا وإنصافهم وإلّا فإننا مقبلون على حرب أهلية حقيقية لن تبقي ولن تذر.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني