
ملامح المستقبل السوري الجديد
في قلب المشهد السياسي السوري المتشابك، يسعى الرئيس السوري أحمد الشرع إلى رسم خارطة طريق لمستقبل أكثر استقراراً وإشراقاً، رغم التحديات الكثيرة التي تلوح في الأفق. وبينما تعيش دمشق صراعات داخلية ذات جذور تاريخية، يعمل المسؤولون في الإدارة الجديدة على تجاوز إرث القمع والبيروقراطية القديمة عبر إصلاحات جذرية تهدف إلى إعادة الثقة في مؤسسات الدولة، وتفعيل مبادئ العدالة الانتقالية، وتأسيس دستور يُعبّر عن آمال الشعب وتطلعاته للمستقبل.
وفي إطار جهود الإصلاح هذه، تأتي زيارة الشرع إلى الرياض كخطوة استراتيجية تعكس رغبة الجانبين في تعزيز علاقاتهما الإقليمية والسياسية. فقد استقبله ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بحفاوة، فيما استمرت المناقشات بين الأطراف الدولية حول ضرورة الانتقال السياسي الشامل، الذي يُعدّ أساساً للتغيير الحقيقي. ومن المقرر أن تساهم هذه الزيارة في تسريع عودة اللاجئين إلى وطنهم، في إطار رؤية متجددة لتحقيق إصلاح اقتصادي يشكل قاعدة للاستقرار السياسي. ورغم أن الردود الأولية جاءت حذرة بعض الشيء، إلا أن الحاجة إلى مزيد من التفاصيل تظل ضرورية لضمان نجاح هذه العملية الطموحة.
على الجانب التركي، تتخذ أنقرة موقفاً دبلوماسياً مشجعاً، تسعى من خلاله إلى تحقيق اعتراف دولي شامل بالحكومة السورية الحالية بما يدعم مصالحها الإقليمية، مع التأكيد على ضرورة معالجة القضية الكردية بطريقة تحافظ على التوازن في المنطقة. إذ تعمل تركيا على تقديم دعمها الرسمي للجهود الدبلوماسية، لكنها تضع شروطاً واضحة تتعلق بمستقبل الفصائل الكردية، حيث تتعارض مطالبهم بالحصول على حكم ذاتي أو فيدرالية مرنة مع الرؤية التركية، التي تشترط تفكيك هذه الكتل كجزء من أي تفاهم سياسي. وفي هذا السياق، يجد الشرع نفسه في موقع حساس، يتطلب منه موازنة ضغوط القوى الإقليمية والدولية على حدٍّ سواء، مع الحرص على عدم الانزلاق في معارك سياسية قد تعرقل عملية الانتقال وإعادة البناء الوطني.
أما على الصعيد الداخلي، فإن التحديات تبدو متعددة الأبعاد؛ إذ يعيش المشهد السوري حالة من الترقب والتجدد في آنٍ واحد. فبعض الفصائل التي رفضت الاندماج في الجيش الوطني الجديد تطالب بمشاركة أوسع وإدارة أكثر شفافية لقوات الأمن، بينما يحافظ الأكراد على سيطرتهم على حقول النفط في الشمال الشرقي كأداة ضغط لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. وفي ظل هذه الخلافات، تبرز رؤى جديدة لإقامة جيش وطني موحد يستند إلى مبادئ العدالة والتوازن بين مكونات الشعب كافة، والولاء للوطن أولاً، مما يفتح آفاقاً لتحقيق انسجام أكبر رغم تباين المصالح.
على الساحة الدولية، تستمر التحركات الدبلوماسية في تشكيل معادلة معقدة تجمع بين روسيا، التي لا تزال تعتبر سوريا محوراً استراتيجياً وتنتظر لحظة سانحة للعودة عبر الممرات البحرية، وإيران، التي تسعى إلى تحالفات جديدة مع الفصائل الموالية لها على أمل استعادة نفوذها، رغم رفض الشعب السوري لأي تدخل من جانبها. في المقابل، تترقب القوى الأوروبية استقرار الموقف السياسي والاقتصادي قبل ضخ استثمارات ضخمة تهدف إلى إعادة بناء البنية التحتية وتعزيز التنمية المستدامة. كما أن الخطاب الحماسي المصاحب للحديث عن العدالة الانتقالية وإعداد دستور جديد، رغم أنه قد يستغرق وقتاً أطول من المتوقع، يعكس رغبة حقيقية في تحويل الحوار السياسي إلى خطوات عملية تُعيد لسوريا مكانتها كدولة تسعى نحو الإصلاح والتغيير.
وفي قلب هذه المعادلة المتشابكة، يقف الشرع عند مفترق طرق مصيري، يتطلب منه اتخاذ قرارات دقيقة تجمع بين إصلاح النظام الداخلي وتخفيف حدة التوترات الإقليمية. فهو مطالب اليوم بتقديم حلول سياسية واقتصادية تتماشى مع التطلعات الوطنية، مع تحمل مسؤولية موازنة الضغوط الخارجية، التي تتراوح بين مطالب الولايات المتحدة بانتقال سياسي شامل، وضغوط تركيا لإعادة رسم التحالفات الإقليمية، وبين مطالب القوى المحلية بإرساء مستقبل قائم على العدالة والمساواة والشراكة الفعالة.
وبينما يراقب المواطن السوري بقلوب يملؤها الأمل والتحدي خطوات المسؤولين في مواجهة تلك التحديات، يظل الحلم ببناء مستقبل أفضل حاضراً بقوة في الذاكرة الجماعية، مما يدفع الجميع إلى الإيمان بإمكانية التغيير، إذا ما اجتمعت الإرادة السياسية على تجاوز الانقسامات وتحقيق توافق شامل. وفي هذا السياق، يتضح أن تاريخ سوريا، الذي يحمل بين طياته دروساً قاسية، يمكن أن يتحول إلى منصة انطلاق نحو مستقبل مشرق، إذا ما أتيحت فرصة حقيقية للمصالحة الوطنية والإصلاح الجذري.
وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال الكبير معلقاً في الأفق: هل ستتمكن سوريا من الخروج من دائرة التناقضات والصراعات التي طالما أثقلت كاهلها بسبب فشل سياسات النظام السابق، لتصبح دولة تستمد قوتها من الوحدة والعدالة، أم أن معارك القوى الكبرى ستواصل رسم ملامح واقع سياسي يصعب معه تحقيق الاستقرار الدائم؟ الأمل لا يزال قائماً، مدعوماً بعزيمة الشعب السوري، الذي لم يتخلَّ عن حلم التغيير، ويبقى مستعداً لتحمل مسؤولياته من أجل مستقبل يحمل في طياته وعداً بتحقيق تطلعات الأجيال القادمة.
وكلنا ثقة بقدرة الشعب السوري على النهوض من جديد.