fbpx

معوقات الانفجار الثوري العربي

0 268

يمكن ملاحظة اختلاف كبير في طبيعة وشكل الاحتجاجات المصرية في الأيام الماضية، مقارنة بتلك التي شهدها ميدان التحرير في العام 2011، كما نلحظ تبايناً واضحاً في شكل وطبيعة المظاهرات اللبنانية والعراقية والجزائرية مؤخراً عن بدايات الحركة الاحتجاجية في كل منها، وكذلك نشهد خفوت الحركة الاحتجاجية الشعبية في العديد من الدول العربية ذات الظروف والأوضاع المعيشية الصعبة بل والكارثية، كسورية واليمن وليبيا والصومال، ونسبياً الأردن والبحرين، وفي نظرائهم من الدول ذات الظروف السياسية الضحلة كالسعودية والإمارات. وهو ما يطرح علينا تساؤلاً عن أسباب هذا الخفوت أو التراجع وعن مقومات نهوضه مستقبلاً.

حيث يدفع تدهور الظروف المعيشية الاقتصادية والخدمية والاجتماعية الشعوب نحو الانفجار والغضب من السلطات المسيطرة، متشبثة بأمل التغيير الجذري والكامل، فتدهور هذه الظروف يضع الشعوب أمام ثنائية لا مفر منها عندما يتساوى خطر الثورة والتغيير مع خطر الموت والمعاناة في ظل الظروف الذاتية الكارثية، تتمثل في الاستمرار على ذات السياق الهابط أو العمل على تغيير المسار ذاتياً. وعادة ما تتشبث الشعوب بأمل التغيير الذاتي نتيجة فقدانها الأمل بقدرة أو رغبة السلطات الحاكمة في التغيير. لذا فالثورة أو حتى الاحتجاج الشعبي هو خيار الشعوب الأخير، خصوصاً في الدول والأنظمة الاستبدادية التي تأسر المجتمعات وتجرم الاحتجاج والرأي الآخر بذريعة المساس بالأمن القومي أو الوطني، الذي يعتبر مطية لسجن المحتجين وقتلهم فردياً أو جماعياً، ولنا بممارسات مصر السيسي وسورية الأسد خير مثال على ذلك في منطقتنا العربية الزاخرة بأمثلة مشابهة.

إذاً، تتطلب الحركة الثورية والاحتجاجية الشعبية توفر عاملين اثنين، يتمثل الأول في انهيار الظروف المعيشية اليومية، وفقدان الأمل برغبة السلطات الحاكمة على تحسينها، وهو شرط محقق في العديد من الدول العربية الآن، كمصر السيسي وسورية الأسد ولبنان المنظومة الطائفية بقيادة تحالف حزب الله – عون. في حين يتمثل الشرط الثاني في أمل الشعوب وثقتها بقدرتها على التغيير الجذري والحاسم، وهنا مربط الفرس عربياً اليوم. إذ نجح تحالف النظم الاستبدادية مع قوى الثورة المضادة إقليمياً ودولياً في إعاقة نجاح أي من ثورات الربيع العربي، ما أحبط الشارع العربي وبث الذعر والقلق في وجدانه، وأفقده الثقة بقدرة الثورات العفوية على التغيير الجدي والشامل.

فمن بقاء مجرم العصر بشار الأسد في سدة الحكم السوري، إلى عودة سيطرة النظام المصري عبر المؤسسة العسكرية الممثلة بالسيسي، مروراً بانهيار أبسط مقومات الدولة في كل من ليبيا واليمن، وتصاعد أشكال مختلفة من الصراع الاجتماعي والسياسي المسلح فيهما. كما لم يتمكن النموذج التونسي ونظيره السوداني من منح الشعوب مثالاً ساطعاً عن نجاح الثورة الشاملة لأسباب عديدة، أولها غياب مظاهر النجاح الثوري اقتصادياً واجتماعياً واقتصارها على المستويين الإعلامي والسياسي، حيث لم تشهد تونس والسودان تبدلاً واضحاً حتى الآن في مسارهما الاقتصادي اليومي، الذي تلمسه الشعوب في قدرتها على تلبية حاجاتها اليومية، ولا على المستوى الاقتصادي الوطني، في تأسيس ركائز منظومة اقتصادية إنتاجية متطورة، تمنح الشعوب أملاً في تطور المستوى المعيشي والتقني والحضاري في المدى المنظور. بل على العكس استمرت ذات الصعوبات الاقتصادية والمعيشية؛ إن لم نقل إنها قد تفاقمت؛ خصوصاً في القرى والمحافظات الطرفية، كما حافظت رموز النظام السابق الاقتصادية على مصالحها ذاتها بعد الثورة، وأحياناً تنامى نفوذها الاقتصادي والسياسي.

أي وبحصيلة كل ذلك لم تنجح أي من ثورات الربيع العربي في منح الشعوب دليلاً ملموساً على قدرة الثورات الشعبية العفوية على تغيير الواقع، بعدما كانت الثورة التونسية منارة أمل مشعة عربياً في الـ2011، وهو ما يعيق ويكبح إمكانية الانفجار الثوري العربي رغم توفر شروطه الذاتية الاقتصادية والاجتماعية. لذا تتطلب تنمية وإنضاج الحركة الاحتجاجية والثورية العربية اليوم قراءة مختلفة؛ تعود بنا إلى بعض مبادئ الحركات الاحتجاجية الأساسية، وأهمها التنظيم والفعل التراكمي وتحديد الأهداف الواضحة والمباشرة. فعلى سبيل المثال أعتقد أن شعار إسقاط النظام قد بات من الماضي، لأن التجربة العربية قد أثبتت أن إسقاط مبارك وبن علي وصالح والقذافي لا تعني انتقالاً تلقائياً نحو مجتمع جديد ودولة متطورة وحضارية، نظراً لغياب أو تغييب الرؤية الفكرية والمنهجية عن طبيعة البديل وأسسه. فالشعار الثوري الحقيقي، هو شعار يحاكي هدف الثورة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهو ما لا يجسده شعار إسقاط الرئيس أو حتى النظام، اللذين يجسدان خطوة أولى في مسار تحقيق أهداف الاحتجاج أو الثورة الشعبية.

لذا أجد في شعار ثورة يناير المصرية خبز؛ حرية؛ عدالة اجتماعية، نضجاً سياسياً وتنظيمياً أعمق وأهم من الشعارات الآنية والمباشرة كإسقاط النظام مثلاً، لأنه يعبر عن هدف الثورة، وعن وعيها السياسي والاجتماعي، ما يحد من عفويتها الاحتجاجية التي يتطلب تجاوزها كلياً شقاً تنظيمياً موازياً. وهنا لا نقصد مجرد تنظيم الحركة الاحتجاجية ميدانياً على أهميته، بل نقصد بذلك بعده الفكري والسياسي والاجتماعي أيضاً، كأداة أو وسيلة لطرح بدائل ثورية تحقق أهداف الثورة. أي ما هي الخطوات والبرامج الاقتصادية والسياسية المطلوبة لتحقيق شعار وأهداف الثورة، كشعار خبز؛ حرية؛ عدالة اجتماعية مثلاً. فمن الواضح أن الأنظمة الاستبدادية والإجرامية والطائفية المتحكمة اليوم في منطقتنا تقر ولو لفظياً بحق الشعوب بالحياة الكريمة، وتدعي بأنها تحرص على تحسين هذه الظروف عبر انتهاج سياسات محددة، وهو ما يتطلب نقداً ثورياً جدياً لهذه التوجهات والسياسيات يفضح دورها في تعميق أزمة الشعوب ومعاناتها، ويقدم بديلاً عملياً واضحاً لها.

فمثلاً يصر عبد الفتاح السيسي على اتباع نهج الاستدانة الخارجية كحل سريع لتجاوز أزمات مصر، في حين يروج الأسد لقدرة الهيمنة الروسية والإيرانية اقتصادياً وسياسياً كحامل للخلاص السوري، كما تدعي مجمل مكونات النظام الطائفي اللبناني أن مخرج لبنان الوحيد بتبعيته شرقاً للصين وإيران أو غرباً لفرنسا وأمريكا. وهنا مكمن أهمية تنظيم الحركة الاحتجاجية عبر تفنيد الخطاب والنهج السلطوي وتقديم بديل أو بدائل واضحة ومحددة، ما يحول الحركة الثورية من حركة احتجاجية عفوية ترفض الواقع الراهن دون أي فكرة عن بديله، إلى حركة واعية ومنظمة بالضرورة، أو أكثر وعياً تمتلك رؤية أو رؤى مختلفة لبديل النظام القائم، ما يمنح الشارع الثقة المطلوبة بقدرته على إحداث التغيير الحاسم والشامل، ويكسب الحشود أملاً بقدرتها على التغيير وإدراكاً لطبيعته وشكله ومساره.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني