fbpx

معبر البوكمال

0 183

تقودني ذاكرتي إلى نهايات العقد السابع من القرن الماضي حول العلاقات الأسرية المتينة التي تربط أبناء محافظة دير الزور بالعراق، وتحديداً محافظة الأنبار العراقية المتاخمة للحدود السورية، كأبناء عشائر تصل درجة القرابة بينهما إلى الدرجة الأولى. كأن يقيم أخ في محافظة دير الزور أو المدن والقرى التابعة لها وأخ من أمه وأبيه يقيم في محافظة الانبار أو المدن والقرى التابعة لها.

الأمر الذي جعل حركة التنقل بين المحافظتين أمراً اعتيادياً واجباً تفرضه صلة الرحم ومنطق القرابة.

لذا عد معبر القائم الحدودي الرئة الاجتماعية التي تتنفس بموجبها المجتمعات الفراتية القاطنة في حوض الفرات، الممتدة من غرب وشمال محافظة الرقة السورية باتجاه الشرق إلى مصب الفرات في الخليج العربي.

فلا تجد فرقاً أو صعوبة حين نتنقل عبر الحدود العراقية السورية بحكم القرابة وبحكم تجانس المظاهر الاجتماعية وأيضاً بحكم الطبيعة العشائرية وحزمة متعددة من الأعراف والعادات المتقاربة في مظاهر الحياة، وأنا أتكلم في الأعوام الممتدة من (1970-1980).

بالنسبة لي شخصياً، كأن أتناول وجبة الإفطار في بيتي (البوكمال على سبيل المثال) ووجبة الغداء لدى أعمامي أو أخوالي في مدينة عانة العراقية أو راوه أو هيت أو القائم العراقية، وأعود آخر الليل من حيث أتيت محملاً بصفوف الهدايا والتمور والحلويات، ونماذج طريفة من القصص والحكايا وتبادل الذكريات أحملها للأهل، وليس هناك ثمة شعور بشي من غربةً أو افتراق أو هجر.

نعم.. فمعبر القائم الحدودي، هو خزان ذكريات جميلة تطير فيه الأرواح لتلقى أهلا وأقرباء وأصدقاء متجانسين في كل مظاهر الحياة.

إن معبر القائم الحدودي هو أحد طرق الإمداد الرئيسية عبر الشرق الأوسط وهو ثالث معابر حدودية، يربط سوريا بالعراق

  1. معبر القائم الحدودي العراقي ويقابله البوكمال السوري
  2. معبر الوليد البري ويقابله منطقة التنف في الصحراء السورية
  3. معبر ربيعة ويقابله اليعربية في الجزيرة السورية

تتوزع هذه المعابر على مساحة جغرافية تصل إلى 600 كم، وتاريخه يعود إلى اتفاقية سايكس بيكو عام 1917 ولكن صيغته النهائية أخذت شكلها عام 1961.

ظل هذا المعبر عقوداً من الزمن شريان الحياة الاقتصادي لكلا الدولتين عموماً وللمنطقة الشرقية على وجه الخصوص، مراعين التقطعات الزمنية التي أحدثتها السياسة لكل دولة – والتي سوف نذكرها لاحقاً – وأتذكر حركة السيارات العراقية وهي تدخل المعبر باتجاه سوريا محملة بالأدوات الكهربائية بماركاتها ومكيفات التبريد وآلات التسجيل وكذلك أتذكر حركة السيارات السورية المحملة بالقرطاسية والتوابل ومواد التنظيف والمنتوجات القطنية والمعلبات وغيرها لتعرض في أسواق محافظة الأنبار مع وجود الرغبة الجامحة في شراءها.

ولكن على المستوى الفردي كنشاط تجاري يقوم به الأفراد، ولنا تجارب شخصية أيام الشباب ندخل المعبر راجلين أو على الدرجات الهوائية محملين بالبضائع حيث لا نجد من يسأل عنها أو عن أنواعها.

بقيت الحال على ما هي عليه إلى نهاية السبعينيات حيث أغلقت الحدود بشكل كامل إثر اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، المسماة بـ (حرب الخليج الأولى) التي بدأت في 22 أيلول 1980، وانتهت في 20 آب 1988 بالقرار الأممي 598 الصادر في العام نفسه، بحيث انسحبت قوات البلدين إلى حدودهما بتطبيق اتفاقية الجزائر عام 1975.

فهي أطول فترة نزاع عسكري في القرن العشرين والأكثر دموية، التي كانت إيران تثبت لتصدير ثورتها عبر الحدود، لكنها ارتطمت ببسالة الجيش العراقي الذي أخرّ هذا المشروع سنوات عدة.

وبدل أن تنشط التجارة العراقية/السورية كموقف وطني على مستوى الدولة، يبست عروق التجارة بين البلدين على صعيد الأفراد ونشطت على صعيد الدولة بعقد الاتفاقيات السرية بين الحكومة السورية وبين إيران فقامت على سبيل المثال بتقديم الثروات النفطية الإيرانية لسوريا سواء بالمقايضة مع سوريا أم بالنقد.

وكلنا يسمع أن سجائر الحمراء الفاخرة ذات العلبة الكرتونية والنكهة اللطيفة تتوفر بكثرة في إيران ولا يجدها المواطن السوري في بلده، وكذلك الحاجات الضرورية الأخرى كالمحارم والمعلبات وغيرها.

أيضاً تستورد إيران عام 1982 ما يعادل 500.000 (طن من الفوسفات)، أبرم العقد وفد سوري برئاسة خدام آنذاك.

وكذلك عقود السلاح لإيران تضمنت بيعها المدافع والذخيرة، وتزامن كل ذلك مع وقف الحكومة السورية في 10 أيار من ذلك العام خط الأنابيب العراقي المار من أراضيها.

كل ذلك أثار حفيظة الجانب العراقي وهو يخوض معركته الضارية ضد إيران، فاصطبغت فترة الثمانينيات بهاجس الخوف والرعب من ذكر العراق حتى ولو لفظاً بأسلوب مخابراتي محكم وإلصاق التجريم بالعمالة له، كل ذلك ترك الأثر السلبي على المجتمعات.

لم يأخذ العراق حظه في الإنتاج في فترة 1988 إلى فترة 1990 حيث اتهم الكويت بسرقة النفط في الجنوب عبر الحفر بطريقة مائلة، محدثةً حرب الخليج الثانية في 7 آب 1990.

وبدأت ما يسمى حرب تحرير الكويت عن طريق التحالف الأمريكي العربي حيث اشتركت (34) دولة في 17 كانون الثاني 1991 تحت مسمى (عاصفة الصحراء) التي أجهزت على البنى التحتية لإقصاء العراق ومنشآته الكهربائية والمائية وكذلك الإجهاز على قطاعات الصحة والصناعة والاتصالات والبناء والثروة الحيوانية والزراعية، الأمر الذي انعكس سلباً على الحركة التجارية جراء إغلاق الحدود.

عانى العراق ويلات الألم والمرض والفقر وأضحى العملاق مرمياً على قارعة الطريق يشتكي العوز.

بقي العراق يصارع الموت حتى عام 1997 حيث أعيد فتح المعبر الحدودي في مدينة القائم بموجب التعاون الاقتصادي في إطار اتفاقية النفط مقابل الغذاء الموقعة بين العراق والأمم المتحدة.

وقد قمت شخصياً بالإشراف على تزيين الحدود بالأشجار المثمرة والزينة في معبر القائم على نفقة البلدية كوني أملك مشتلاً هناك في البوكمال.

وفعلاً حدثت اتفاقية منطقة تبادل تجاري حر بين البلدين إثر لقاء رئيس وزراء النظام آنذاك محمد مصطفى ميرو من الجانب السوري مع طه ياسين رمضان من الجانب العراقي لإقامة سوق عربيه مشتركة.

نشطت حركة التجارة الحدودية بين البلدين وعاشت المنطقة جانباً من الاستقرار المعيشي.

في عام 2001 حدثت لقاءات وزارية في دمشق بين العمادي ومحمد مهدي صالح أسفرت عن اتفاقيات عدة للتبادل الحر التي سمح بانتقال السلع بدون رسوم جمركية أو تراخيص استيراد. شريطة أن تكون محلية المنشأ، كل ذلك ضمن الإطار الذي حددته لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة للمبادلات التجارية مع العراق.

وربما هي الانفراجة الوحيدة التي أخرجت العراق من شبح الحصار الجائر الذي عانى منه.

ولكن كالعادة دائماً تلقي السياسة بظلالها القاتمة على واقع الحياة بين البلدين لتدخل في نفق الحروب من جديد عام 2003 شنت أمريكا وبريطانيا عدوانهما السافر على العراق بما يسمى (حرب الخليج الثالثة) وذلك في 19 آذار 2003 التي تم بموجبها إسقاط بغداد بمساعدة قوى التحالف الغاشمة كالبيشمركة والأحزاب الشيعية الإيرانية والشخصيات التي أتت على ظهر الدبابات الأمريكية.

وأنشأ الأمريكان حكومات عميلة في فترات انتقالية استمرت بانتخابات ذات محاصصات طائفية في كانون الثاني عام 2005 بصياغات معلبة ومستوردة، قائمة على منطق بريمر الأمريكي الذي مازالت ارتداداتها السلبية حتى الآن، حيث توالت هذه الشخصيات وقادت العراق إلى الدرك الأسفل من الفساد والانحطاط والفقر والتخلف حتى عام 2011، حين انزلق العراق إلى عنف طائفي مقيت بلغ ذروته في 2006-2007.

في حمأة الظروف كان النظام السوري يقيم علاقات مع الجانب الرسمي العراقي تختفي تارة وتظهر تارة بأشكال ومضامين غير واضحة ببعدها الطائفي والذرائعي كون العراق تحكمه فئة موالية لإيران وكذلك الأمر لدى سوريا.

إن توجه دفة المسار السياسي الممزوج بالطائفية وبالمشروع التوسعي قضم دولاً وأنهك شعوباً وطحن أحلاماً وأباد رؤى وأهدافاً.

فقد دفع النظام السوري الشباب المتحمس المشبع بأفكار الجهاد والمحتقنة غيظاً من الوجود الأمريكي نحو العقلية الجهادية المعتمدة للتخلص منهم في مطحنة المقاومة العراقية إضافة لإطلاق سراح كثير من المتطرفين من سجون بغداد لخلق حالة العبث والفوضى التي ولدت بعدها داعش فكر وممارسة.

في الجانب السوري، وتحديداً في 18 تشرين الثاني عام 2012 سيطر الجيش السوري الحر على مدينة البوكمال الحدودية مع العراق، فنشطت حركة التجارة غير المنتظمة (التهريب) التي مد الثوار بالسلاح الذين أرسلوها للعمق السوري.

إن نشاط حركة التجارة غير المنظمة قسمت المنطقة إلى فئات أكثر ثراء وغنى وبالمقابل فئات أكثر فقراً.

كان المعبر يغط في سبات مزمن إثر الواقع الذي فرضته الحالة الثورية في المنطقة.

يأتي عام 2014، السنة التي دخل فيها تنظيم داعش إلى منطقة البوكمال وأصبحت الحدود تحت سيطرته وخيمت حالة الفوضى وانمسحت النقاط الحدودية بين البوكمال والقائم فنشطت تجارة مضطربة غير محددة المعالم وبقيت هذه الحالة في جو قلق مشحون بالخوف من المستقبل والمصير المجهول، بعد تبني داعش عقيدة جهادية متطرفة بقطع الرقاب لأدنى سبب وتخرب النسيج الاجتماعي والعقائدي لدى أفراد العائلة الواحدة.

وبقيت الحال على ما هي عليه حتى عام 2017 حيث استعادت الحكومة العراقية ذات الأجندة الإيرانية بلدة القائم تحت القصف العشوائي الهائل من الطائرات الأمريكية على كل مظاهر الحياة، وأعيد فتح المعبر من جديد بإشراف حكومي (سوري – عراقي) تابع لإيران في 30 أيلول عام 2019، أي بعد خمس سنوات من إغلاقه، ما خلق حالة أكثر ضراوة وقتلاً وحزناً وألماً، تمثلت باستخدام الميليشيات الموالية لإيران من جميع الجغرافيا الشيعية في شرق العالم، شملت بناء قواعد عسكرية في محيط القائم تحتوي على مستودعات أسلحة، وقد أظهرت ذلك الأقمار الصناعية الغربية.

ولم يعد الهدف من فتح المعابر هدفاً تجارياً للفائدة، إنما تجلى بهدفه الاستراتيجي الإيراني الذي يرسم حدود ومعالم البدر الشيعي المزعوم، وتحقيق الحلم الإيراني في ربط طهران ببغداد ودمشق وبيروت، كي تكون العراق جزءاً من إمبراطورية إيران الممتدة من المتوسط إلى الحدود الأفغانية.

لقد تدفقت عبر الحدود العراقية كتائب وألوية طائفية، عيونها على بلاد الشام، كي تروي هذا النهم الطائفي.

لم يشهد التاريخ أكثر ضراوة وحمقاً منها، فكان معبر القائم الحدودي وباءً حل على منطقتنا بعد أن كان شرياناً دافقاً بالحياة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني