مظاهر استغلال السوري في سورية
نفاجأ في بعض الأحيان من هول قرارات وإجراءات القوى المسيطرة في سوريا بحق المواطن السوري، لدلالاتها الصادمة ومعانيها الكارثية. فمن الواضح لأي متابع للشأن السوري اليوم خضوع كامل الجغرافية السورية لقوى احتلال مختلفة، الأمر الذي يعكس تبايناً في مصالح هذه القوى، وعادة ما تعبر مفردة مصالح عن المطامع الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، ونعلم أيضاً أن المكون البشري هو عنصر فاعل ومحوري في أي عملية اقتصادية، لذا يسهل توقع مظاهر استغلال العنصر البشري صناعياً وزراعياً وعمرانياً، في ظل غياب القوى والأحزاب المدافعة عن حقوق وحاجات المكون البشري، والذي في حالتنا هنا يتمثل في الشعب السوري. لكن وعلى نقيض ذلك يبدو أن القوى المسيطرة على الجغرافيا والمجتمع السوري تباعاً تسقط من حساباتها الآن وربما في الأمد المنظور استغلال القوى العاملة السورية اقتصادياً، وهو أمر صادم يتطلب بعض التدقيق في معانيه.
لكن وقبل الدخول في معاني هذه الظاهرة لابد في البداية من توضيح نقطة مهمة تتعلق بطبيعة مصالح القوى المسيطرة الاقتصادية، حتى لا يساء فهم المقصود بها. طبعاً لا تكترث القوى المسيطرة بمصالح سورية الوطنية على المستويين الشعبي والوطني، لذا فهي غير معنية في بناء منظومة اقتصادية إنتاجية متطورة اقتصادياً وزراعياً، بل عادة ما تسعى القوى المسيطرة والمحتلة لأي بقعة جغرافية إلى تحويل مجمل الكتلة الاجتماعية إلى عبيد في خدمة مصالحها المباشرة. فالمقصود بمجمل الكتلة البشرية هو استغلال كل شخص قادر على أداء المهمة، صغيراً كان أم كبيراً، فلا أهمية تذكر هنا لحق التعلم أو الطبابة أو غيرها من الحقوق المقرة دولياً، كما تزول الفروقات الجندرية في حسابات المحتل المصلحية، ليتساوى النساء والرجال في الاستغلال الفج والمباشر الذي يصل في كثير من الحالات إلى حد العبودية. حيث يمكن بسهولة استدعاء مظاهر استغلال تاريخية لحشود بشرية تحفر الأرض أو تبنيها أو تستخرج الثروات من باطنها في ظل ظروف عمل أقل ما يقال عنها أنها غير إنسانية، تسعى إلى زيادة أرباح المحتل بأقل تكلفة مادية ممكنة، عبر استبدال الآلات المتطورة باهظة الثمن بقوى بشرية لا تكلف المحتل شيئاً.
إذاً وعلى الرغم من وحشية هذا الشكل الاستغلالي أو العبودي، إلا أنه نتيجة متوقعة لسيطرة قوى خارجية على أي دولة أو منطقة جغرافية، بيد أننا نشهد بصورة غريبة تنامي شكل مختلف من استغلال الكتل البشرية السورية، استغلال يعكس تبدلاً في أولويات القوى المسيطرة، كفرض نظام الأسد رسوماً مالية على كل سوري يرغب في دخول وطنه، وكحملات تجنيد السوريين للقتال في ليبيا وربما في مناطق أخرى حول العالم. قد يعتقد بعضهم أنها مجرد شكل من أشكال استغلال القوى البشرية، لكنها في الحقيقة انعكاس للواقع السوري، حيث تعبر القوى المسيطرة بهذه الممارسة عن إدراكها لصعوبة وربما استحالة بدء مشاريع النهب الاقتصادية في الوقت الراهن؛ بل وفي الأمد المنظور وربما المتوسط، لذا لا يعنيها إطلاقاً اليوم إحكام سيطرتها على الكتلة البشرية الممكنة. فبقاء السوريين اليوم في مناطق سيطرة القوى المسيطرة عبء لا ترغب أي منها به.
وعليه لم يجد نظام الأسد أي حرج من ربط عودة السوريين بقدرتهم على تصريف مبلغ يعادل الـ 100 دولار أمريكي، فمن يلبي أهداف وحاجات النظام مرحب به اليوم، ومن يعجز عن تلبيتها فليكن الموت مصيره على الحدود السورية الرسمية. وكذلك بما يخص حملات تجنيد السوريين، فلا حاجة لقوى الاحتلال بالقوى البشرية العاملة داخل الجغرافية السورية، بحكم طبيعة الصراع والتصادم الدولي في سورية، التي تمنع بدء مشاريع اقتصادية خاصة بالقوى المحتلة. لذا لا ضرر اليوم من استغلال القوى البشرية السورية في مواضع وأشكال أخرى، وليكن السوري مرتزقاً يقاتل من أجل لقمة عيشه في ليبيا أو في أي موضع آخر.
طبعاً قد لا يصح هذا التعميم على مواقع سيطرة القوات الأمريكية نظراً لغياب حاجة أمريكا اليوم لقوى مقاتلة مأجورة، دون إلغاء إمكانية حدوثه مستقبلاً، كما يعود غياب هذه الظاهرة في مناطق سيطرة قسد أو الأمريكان إلى مكانة الولايات المتحدة الأمريكية عالمياً، الأمر الذي يفرض على مجمل القوى المسيطرة في سورية تجنب التصعيد المباشر معها، لذا تدير الولايات المتحدة عمليات استخراج النفط السوري دون أي معوقات تذكر، ودون أي خشية لاحتمال تعرض قواتها أو مصالحها لأي خطر مهما صغر. حيث يتم استخراج النفط بوسائل بدائية وفي ظل ظروف غير صحية بغرض تقليل تكلفة الإنتاج واستغلال القوى البشرية العاملة المتاحة في هذه المنطقة وفق رغبة وإرادة قوى الاحتلال الأمريكي.
أي تقتصر مظاهر استغلال القوى البشرية السورية اليوم على أشكال غير منتجة وغير مرتبطة باستغلالها كقوة عاملة، لصالح مظاهر مالية أو قتالية بحتة، إذا ما استثنينا الوضع القائم في مناطق السيطرة الأمريكية. وبالتأكيد لا يخلو التاريخ كلياً من مظاهر مشابهة لها نسبياً، إذ يزخر التاريخ بمظاهر استغلال مشابهة على التوازي مع مظاهر استغلال اقتصادية بحتة. أي عادة ما تجند قوى الاحتلال جزءاً من الكتل البشرية القادرة على العمل لصالح مهام عسكرية خارجية، في مقابل تجنيد الكتلة الأخرى لصالح مشاريعها الاقتصادية المحلية. أما سوريا، فقد حولت القوى المسيطرة من قتال السوريين المأجورين لصالحها إلى شكل من أشكال العمل والمنفعة المالية الضرورية لدى جزء غير قليل منهم، والذي تعود عوائده لها غالباً. أي غالبا ما يتم صرف عائدات الارتزاق السوري في ليبيا من قبل عائلاتهم داخل مناطق سيطرة القوى التي أرسلتهم.
في النهاية أود الإشارة إلى نقطة يتهرب الكثير من السوريين من الاعتراف والإقرار بها، تبدو لي وكأنها سبب تنامي هذه الظاهرة مؤخراً، والتي تتمثل في استعصاء الحل السوري في الأمد المنظور، حيث يعكس هذا السلوك الاستغلالي والإجرامي، إدراك القوى المسيطرة على مجمل المشهد السوري أن لا حل قريب للقضية السورية، وبأننا مقبلون على أشهر وربما سنوات تشهد مظاهر صراع دولي على سورية. وبالتالي لابد من طوي صفحة التعويل على فرض حل سياسي أمريكي أو تركي أو روسي، والبحث عن حلول تمكن السوريين من فرض حل وطني يلبي مطامحهم وآمالهم ويحررهم من سيطرة جميع القوى المحتلة.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”