fbpx

مظاهرات الشمال المحرّر.. الزخم الثوري مطلوب وكذلك قراءة الواقع

0 215

الوصول إلى الحقيقة ضرورة، والإصرار على تحقيق أهداف الثورة وإن كان بحدّها الأدنى حقٌ غير قابل للمساومة والتفريط. هذا الأمر يخصّ السوريين وقواهم العسكرية والسياسية والثقافية والحاضنة الشعبية الواسعة.

وكي لا يقرأ مُغرضٌ معنى الحدّ الأدنى لأهداف الثورة السورية كما يرغب، نقول إن هذا الحدّ يرتبط بتطبيق فعّال وكامل وحقيقي لبيان جنيف1 والقرارات الدولية 2118 و2254. وهذا يعني وقف النظام المتهالك والآيل للسقوط لحربه ضدّ الشعب السوري وتنفيذه للقرارات المذكورة.

الائتلاف الوطني السوري وهيئة المفاوضات كلاهما عبّرا مراراً على التمسك بثوابت الانتقال السياسي، والخلاص من نظام أسد الاستبدادي، وفق القرارات الدولية الخاصة بهذا، وهذا يعني عدم التفريط بهذه الثوابت، بما فيها رفض الصلح والتعاون مع نظام أسد، الذي دمّر البلاد وقتل العباد، وهجّر الملايين من بيوتهم، وعذّب المعتقلين، وصفّى كثيراً منهم بغير محاكمة عادلة.

وفق هذه الرؤية، يمكننا قراءة أبعاد مظاهرات السوريين في الشمال المحرّر، حيث رفضت هذه المظاهرات الصلح مع النظام، هذا الصلح شأن خاص بقوى الثورة والمعارضة، ولكنه ليس مقياساً للممارسة التكتيكية للقوى الإقليمية والدولية المتحالفة مع الشعب السوري ضدّ جلاديه، إذ إن هذه الممارسة تخضع لأمور كثيرة، تتعلق بظروف هذه القوى الإقليمية والدولية، الداخلية منها والخارجية، وهذا أمرٌ طبيعي، لأن الظروف تتغيّر باستمرار.

لقد قال وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو بما معناه، إن تركيا ستنسحب من مواقعها في سوريا، وتسلّم هذه المواقع لحكومة سوريا بعد تحقيق الاستقرار السياسي فيها.

الانسحاب التركي من الأراضي السورية مرتبط بتحقيق الاستقرار السياسي في هذا البلد، هذا الاستقرار لن يتحقق بغير تنفيذ القرار الدولي 2254 وتشكيل هيئة حاكمة انتقالية وفق نص القرار المذكور، وبالتالي القول إن تركيا تريد تسليم المواقع للنظام الأسدي هو قول مضلّل، فالأتراك لم يقولوا ذلك، بل كانوا ولا يزالون يصرّون على تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بسوريا.

الأتراك ليسوا في موقفٍ ضعيف سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً قياساً للنظام الأسدي المتهالك والآيل للسقوط، فلماذا كما يشيع بعضٌ من المغرضين، أو من الذين يدّعون الثورية، ويطالبون باستمرار الثورة، وهم يقبعون في عواصم أوربا، إن تركيا تجنح لتقديم تنازلات لنظام صنّفته بنظام قتلٍ وتدمير؟.

هذا الاستنتاج هو ناتج قراءة من سطح الحدث، أو قراءة كيدية ضد تركيا خدمة لأجندات معادية للترك والسوريين، دون معرفة مقدمات وآفاق الموقف التركي، هذا الموقف، تعرفه قوى الثورة والمعارضة، وقد شاورت الحكومة التركية هذه القوى وفي مقدمتها الائتلاف الوطني السوري حول رؤيتها لإدارة تطورات الملف السوري، بالتعاون معها باعتبارها دولة ضامنة.

الموقف التركي يمكن قراءته بالصورة التالية، وهي أن تركيا تريد الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية للتوقف عن دعم ميليشيات تنظيم العمال الكردستاني، المصنّف لديها كتنظيم إرهابي مسلّح، يقوم بشنّ هجمات على الأراضي التركية، هذا الضغط، يأتي من تقارب روسي تركي لإدارة الملف السوري، مع أن تركيا تدرك أن لا حلّ سياسياً للصراع في سوريا دون ضوء أخضر من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تحاصر نظام أسد بقانونين يشكلان مقدمة لسقوط النظام الأسدي، هذا القانونان هما قانون قيصر وقانون الكبتاغون.

تركيا ليست مغمضة العينين عن بديهيات سياسية كهذه، وتركيا قوية، والقوي لا يتنازل للضعيف المتهالك والآيل للسقوط، وهذه المظاهرات في الشمال المحرر تدعم الرؤية التركية القائلة بأن استقرار سوريا السياسي لا يأتي من خارج تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بالصراع فيها، لذلك شكّلت هذه المظاهرات العارمة دعماً للموقف التركي أمام النظام الروسي.

التصريحات التركية واللقاءات مع النظام الأسدي برعاية روسية هي رسائل ذات اتجاهات متعددة، أول هذه الرسائل موجهة للمعارضة التركية الداخلية، فهذه المعارضة أرادت استثمار ورقة اللاجئين السوريين والعلاقة مع نظام أسد في معركتها الانتخابية ضد حزب العدالة والتنمية وحلفه مع الحركة القومية التركية، لكن أردوغان استطاع بحنكته السياسية سحب هذه الورقة من تداول المعارضة، وبالتالي حسم مصير الانتخابات القادمة في صيف 2023 لصالحه، إذ أن هذه المعارضة لا تملك برنامج عمل مقنع يخصّ الوضع الداخلي التركي بكل جوانبه المختلفة.

ثاني اتجاهات هذه الرسائل والتصريحات واللقاءات التركية مع نظام أسد برعاية روسية كان موجهاً للخارج الغربي، وتحديداً للولايات المتحدة الأمريكية، التي ترعى تسليح ودعم تنظيم إرهابي هو العمال الكردستاني إضافة لذراعه السورية المسماة زوراً (قوات سوريا الديمقراطية)، فالأتراك هنا يضغطون بقوّة على الأمريكيين من خلال اقترابهم من الروس، وهذا يزعج الأمريكيين وقد قالوا إنهم يراقبون ما يجري من لقاءات مع نظام أسد برعاية روسية، مذكرين بأن نظام أسد نظام قتل وإرهاب وبرقبته جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهذا امر تعرفه تركيا ولا يمكنها تجاوزه، لأنه يضرّ بسمعتها النظيفة.

الضغط التركي على الولايات المتحدة عبر التقارب غير الحاسم مع الروس والنظام الأسدي، يريد موقفاً امريكياً يساعد على تنفيذ القرار 2254، والذي لم تخدم تنفيذه الولايات المتحدة رغم قدرتها على ذلك.

مظاهرات الشمال ليست ضد تركيا الحليفة للسوريين، والتي تستضيف على أراضيها منذ سنوات كثيرة أكثر من ثلاثة ونصف مليون سوري، بل هي دفعة دعم غير معلنة للحكومة التركية للضغط على الغرب والروس من أجل تحريك الملف السوري وفق القرارات الدولية.

ستوظّف تركيا هذا التظاهرات في الشمال السوري المحرر، لصالح خلق بيئة آمنة في هذه المناطق، التي سيعود إليها السوريون في حالة تأمينها أمنياً وسياسياً واقتصادياً، مما يفتح الباب لحل شاملٍ للصراع يتم من خلاله تنفيذ انتقال سياسي وفق القرار 2254.

مظاهرات الشمال مظاهرات مشروعة وضرورية لمنع أي تنازلات قد تقدم عليها قوى في المعارضة، هذه المظاهرات أعادت من جديد الزخم الثوري لقوى الشعب السوري، وشكّلت سياجاً يمنع من يفكّر بتجاوزه. مع ذلك من الضروري باستمرار معرفة الواقع المتغيّر داخلياً وخارجياً، وعلى أساس هذه التغيرات يمكن اشتقاق الأهداف المرحلية دون التخلي عن ثوابت الثورة السورية العظيمة، التي تريد إنهاء استبداد النظام الأسدي، وبناء نظام دولة مدنية ديمقراطية تعددية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني