fbpx

مستقبلنا المسلوب: حدود التغيير المفروضة في سورية

0 393

لم يُنتِج
لقاء قادة أستانا: بوتين وأردوغان وروحاني، في الأول من هذا الشهر، عبر خدمة
الفيديو، جديداً في المشهد السوري. ويبدو أنّ هناك استعصاءً ما بين الأطراف
الثلاثة، يتعلّق بمسألة إدلب خصوصاً. لكنّ اللقاء رغم ذلك، أنتج لنا مجموعة مؤشّرات،
يمكن لنا استخدمها في رسم حدود المستقبل السوري الذي سيتمّ فرضه علينا، بعد أن
أخفقت قوى المعارضة السورية في رسم تلك الحدود، بشكلٍ مستقلٍّ أو شبه مستقلّ.

وهو ما
يُعتبَر أول حدٍّ من حدود التغيير المفروضة على مستقبلنا، بمعنى، أنّ القوى
الدولية كافة في المشهد السوري، لا تشتغل بالتنسيق مع قوى المعارضة السورية في رسم
هذا المستقبل، بل من خلال اختيار شخصيّاتٍ محدّدة، تناسب تطلّعات قوة من هذه القوى،
لتمرير مشروعها لا أكثر.

ثانياً، ومن
أبرز هذه الحدود التي رسمتها قمة أطراف أستانا: “التزامها بوحدة سورية
وسيادتها”، ورغم تناقض هذا المبدأ/الحدّ مع الوضع القائم، إلا أنّه يشير إلى
التقاء مصالح ثلاثة قوى فاعلةٍ في الشأن السوري، على مسألة استمرار الدولة السورية
وفق حدودها الحالية، وهو تأجيلٌ لأيّة مساعٍ من طرف قسد (المدعومة من بعض الأطراف
العربية) لتفكيك سورية، عدا عن أنه يؤجِّل أيّ طرحٍ لفكرة وجود إقليمٍ علويٍّ قابل
للدولنة، أو إقليمٍ جنوبيّ (حوران أو السويداء).

ويبدو من
خلال مخرجات هذه القمة، أنّ روسيا وإيران، قلقتان ومتضرّرتان من عقوبات قانون
قيصر، وإن كانتا تدفعا بحجة “عدم الشرعية” و”تجويع الشعب
السوري”، إلا أنّ ذلك مؤشرٌ آخر على أنّ الطرفين أدركا مُبكِّراً حجم الضرر
الذي يطالهما من القانون، وخصوصاً أنّ القمّة أشارت بشكلٍ واضح (وخصوصاً بوتين)، إلى
نيّة هذه الأطراف الثلاثة، التنسيق فيما بينها في توزيع حصص إعادة الإعمار، والتي
يعاقب قانون قيصر من يبدأ بها حالياً.

وعليه، يتمثّل
الحد الثالث لمستقبلنا السوري، في: تثبيت حصص الدول المتدَخِّلة في سورية، في
مستقبلنا الاقتصادي، كلٌّ حسب حجم حضوره في المشهد السوري، وكلٌّ حسب قوته ونصيبه.

هذا المحدّد،
ينقلنا إلى فرضية تختصّ بالمستقبل القريب (الأشهر القادمة)، وهو أنّ كل طرفٍ من
الأطراف الثلاثة، سيشتغل حثيثاً على تثقيل حضوره في سورية، بُغية تثقيل حصته من
مستقبلنا الاقتصادي، وهذا التثقيل سيكون على أشكالٍ عدّة، منها المواجهات المسلّحة
عبر الوكلاء على حدود الفصل العسكرية القائمة حالياً (إدلب)، ومنها الاغتيال لشخصيّاتٍ
سوريّةٍ مؤثّرةٍ محسوبةٍ على كلّ طرفٍ من هذه الأطراف، ومنها استهداف كلِّ طرفٍ الآخرَ
بشكلٍ غير مباشر.

الاستهداف
غير المباشر، ينقلنا إلى قبول فرضيّة أنّ الروس يُقدّمون معلوماتٍ استخباراتيةً ما
للإسرائيليين؛ لإضعاف الوجود الإيراني في مناطق نفوذ روسيا خصوصاً، وهو ما ستستفيد
منه روسيا عند توزيع الحصص.

لكن، لا
بد لنا أن نتذكّر أنّ هذه القمة، وبغضّ النظر عن الموعد الدوري لها، تأتي مباشرةً
عقب إنفاذ قانون قيصر، وعليه فإنّ المحدد الرابع والضابط لهذه المحددات السابقة
كلِّها: أنّ المستقبل السوري مرهونٌ بالضبط الأمريكي، أو قبول الولايات المتحدة لشكل
الحلّ الذي ستروّجه الأطراف الأخرى.

إذاً:
سورية موحَّدة، ذات اقتصادٍ مرهونٍ في غالبيته لكلّ القوى المتدخِّلة، وحلٌّ مضبوطٌ
أمريكياً، ولا دور في رسم مستقبلها للمعارضة السورية، هي أساسات المستقبل السوري
المنتظر.

لكن
التساؤل يبقى قائماً عن شكل هذا المستقبل، الذي يُفتَرض أنّنا على أعتابه، وهنا
يبدو أنّ هذه القوى الثلاثة (والولايات المتحدة أيضاً)، لا تمتلك رؤيةً شاملةً
للتغيير، وإن امتلكت بضع محدّداتٍ أساسية، فهي غير قادرةٍ على فرضها. فروسيا هي
المُتحكِّم الأساس بالمشهد السوري اليوم، لكنّ إيران قادرةٌ على تخريب كثيرٍ من
المساعي الروسية في مناطق النظام، إن لم تكن التسوية مُرضِيةً لها. وتركيا الأخرى،
من خلال نفوذها في مناطق الشمال السوري، ولدى كثير من قوى المعارضة السورية، قادرةٌ
على عرقلة أيّة مشاريع حلٍّ روسيةٍ لا تتوافق مع تطلّعات تركيا.

ويبدو، من
خلال التحرّكات الروسية خلال الأسبوعين الفائتين، أنّ روسيا، تبحث عن صيغةٍ ما
للحل، ولا تمتلكها، بعد أن أدركت أنّها مُجبَرة على إيجاد هكذا صيغة، نتيجة عقوبات
قيصر، فيما يشوب هذه التحرّكات الكثير من الإخفاق.

إذ تحاول
روسيا في الأسبوعين الأخيرين، تثبيت فكرة خطوط الفصل الهُويتية في المجتمع السوري،
وهذا خطيرٍ على مستقبلنا، أي أنه يُحضِّرنا لصراعاتٍ مستقبليّةٍ أخرى على أساس الهُوية،
يأتي ذلك من تحركين اثنين قامت بهما روسيا:

الأول في
لقائها بما عُرف بـ “عقلاء العلويين أو العلويين المؤثرين”، وهو تأكيد
على تجزئة الحلول السورية، وتأسيس حواضن هُويتية، تفاوض على أساس “الأنا
والآخر”، بمعنى إزاحة الهُوية السورية جانباً، والحديث عن هُوياتٍ طائفيّةٍ
بديلة ضمن سورية الموحَّدة التي يقول بها الروس. ما يدفعنا إلى استنتاج ذلك،
مجموعة نقاط طرحها هذا اللقاء:

–                    
اعتبار أنّ سورية كانت مجموعة من الأقاليم المستقلة،
وأنها توحّدت باتفاقٍ بينها، وهو انتقاءٌ تاريخيٌّ كيفيّ، غير دقيق، يبتغي تبرير
التفكيك الهُويتي الجاري. ولن نخوض في لحظة نشوء سورية، فالكل يعلم كيف نشأت، بعد رفض
بعض مخرجات الانتداب، وليس باتحاد دول مستقلة.

–                    
لم يأتِ اللقاء على ذكر الجرائم التي ارتكبها النظام،
وفضّل الحديث عن “مظلوميّات مفترضة”، يُطالب بإسقاطها. ومع أنّنا ضد
فكرة “الاختباء وراء بكائيّات المظلوميّة”، لكنّ هناك عدالةً انتقاليةً
لابد لها من معالجة الضرر الذي طال السوريين لنصف قرن وخلال عشريةٍ سوداء ماضية.

–                    
كما أنّ البيان في جزءٍ منه تبريريٌّ منغلقٌ على ذاته،
حيث ادّعى أنّ السبب الأساس لهيمنة العلويين على الأمن والجيش، هو فقر مناطقهم
وقلة الوظائف المتاحة، ولو كان ذلك سبباً حقيقياً، لكان أولى بمناطق سورية أخرى أن
تكون هي المهيمنة على هذه المؤسّسات. وهذا التبرير هو تبرير لسلوك أجهزة الأمن
بصيغة غير مباشرة، وتبرير بالنتيجة للمذبحة السورية.

–                    
فيما يحاول البيان ترويج “النموذج الروسي”، في
بناء المستقبل السوري، ويبدو أنّ من صاغ البيان أو تحدّث فيه، غير مطّلعٍ على
الاختلافات البِنيويّة وأسس المقارنة العلمية، وآليّات البحث عن نموذجٍ قابلٍ
للتطبيق، عدا عن إشكاليّة نموذج “ديموقراطية” روسيا الأوتوقراطية.

–                    
وفي تأكيد على عصبويّة الخطاب، يأتي الإصرار على وجود
حمايةٍ أجنبيةٍ للساحل السوري “للعلويّين”، وتفضيل روسيا على إيران،
وعدم اعتبارهما احتلالاً أجنبياً، ما يؤكد أنّ الخطاب ينظر إلى باقي السوريين
بأنهم “الآخر أو العدو”، وأنّهم بحاجة للحماية منهم، وبالتالي يُشرعن
طلب “الآخر” حمايةً خارجيةً “احتلالاً آخر”، يتّفق مع هويته
الفرعية.

–                    
وحين تحدّث الخطاب عن سورية الديموقراطيّة العلمانيّة،
تجاهل أنّ الديموقراطية تحتاج إلى عدالة، وأنّ كليهما يحتاج إلى “مرحلة
انتقالية”، وأنّ الحديث عن العلمانية غير مضبوطٌ وغير واضح، فهل ستكون علمانيّةً
طائفيّةً إقصائيةً على غرار علمانية نصف قرن مضت؟

طبعاً نتّفق
مع البيان في ضرورة وجود حوار سوري/سوري، قائمٍ على وحدة الهوية السورية، لكن بشرط
أن يكون حواراً جريئاً، لا يقوم على التحاصص على مبدأ الهويات الفرعية والنسب
التمثيلية. فالتشاركية هنا، لا تعني التحاصص، بل التوافق على إدارة أسوء مرحلة من
تاريخنا، والتنازل المتبادل، والاعتراف بأساسات الكارثة/المذبحة، إغلاقاً لمسارات
تكرارها.

بالنتيجة،
لا يمكن لروسيا عبر تجمّع العلويين المؤثرين، أو سواهم، القفز نحو دولةٍ سوريةٍ ديموقراطيةٍ
وطنيةٍ جامعة. قبل أن نقوم نحن السوريون بمعالجة أسباب الانفجار الكامنة فينا،
والقادرة على قيادتنا إلى مأساةٍ أكبر من مأساتنا الحالية، ولا يمكن القفز على
مئات الآلاف من الشهداء، لمجرد أنّ روسيا تسمح لفريق ما أن يُعلِي وجهة نظره ثانية
(أو أن يبني نموذجاً أوتوقراطياً روسياً).

أسس
الديموقراطية هذه، التي يطالب بها التجمّع، لا تمتلكها روسيا، التي تحاول من جهة
ثانية، وعبر لقاء ثانٍ يؤكد ميلها لتعزيز البعد التحاصصي الطائفي، عبر البحث عن
شخصية سنيّةٍ “هشّة” وغير فاعلة، قابلةٍ لأن تكون على رأس نظام/حكومةٍ مُعادٌ
إنتاجها، وفق التطلّعات الروسية، وربما تأتي زيارة نائب وزير الخارجية الروسي إلى
الدوحة، بحثاً في قائمة من الأسماء التي تمتلكها موسكو، لاختيار الأنسب لها، وليس لسورية.

إن كان
مستقبلنا مضبوطاً بالمصالح الدولية، فلا يمكن لنا أن نسير في هذا المستقبل بعيداً،
إن كان محدّده الخامس، مُحدّدٌ تحاصصيٌّ هُويتي، يعزّز خطوط الفصل، ويُحضِّرنا
لموجةٍ أخرى من النزاعات الهُويتية.

 

 

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني