محاولات اغتيال الثورة السودانية
من تراه المستهدف من حادثة الاغتيال التي نفذت في السودان يوم الاثنين 9 آذار 2020 في منطقة الخرطوم بحري شمال الخرطوم أهو عبد الله حمدوك رئيس الوزراء فعلاً أم إن إسقاط الثورة السودانية بكاملها هو الهدف والغاية؟! لا شك في أن الاحتمال الثاني أقرب إلى العقل والمنطق، فالثورة السودانية التي شكلت نقطة ارتكاز بارزة في إطار ثورات الربيع العربي التي بدا للمتابعين والمهتمين بالشأن العام أنها تبشِّر بمرحلة نوعية قادمة على الدول العربية والإسلامية يقودها الشباب على نحو خاص، هؤلاء الذين اكتسبوا وعياً جديداً مغايراً لكل ما هي عليه أوطانهم من قمع واستبداد وبالتالي تخلف وفساد وهزائم متلاحقة.. ولذلك فهؤلاء الشباب يسعون نحو انقلاب كلي على الأنماط السائدة في معظم البلاد العربية سواء تلك التي يحكمها العسكر أم تلك التي تتقاطع معها، وإن بأشكال وخلفيات فكرية أخرى، فالثورة التي حصلت في السودان، وقادتها قوى سياسية مختلفة ونقابات مهنية ومنظمات اجتماعية وأجيال من الشباب والنساء تكاد أن تكون نموذجاً لطموح هؤلاء الشباب إذ هي تبشر ببناء جديد يلامس جوهر حضارة اليوم وشروطها، وتسعى للتخلص من أعباء التخلف الشامل سواء أتى من الاستبداد الإقطاعي الذي امتد في الزمن الماضي قروناً طويلة أم من دول الاستبداد العسكري التي أتت بانقلابات عسكرية في النصف الثاني من القرن العشرين متساوقة مع ما ساد في العالم من ثورات أرادت القطيعة المطلقة مع ما كان سائداً قبلها متهمة ما قبلها بالرجعية أو بالبرجوازية العميلة للاستعمار والإمبريالية العالمية ومع معظم الدول المتقدمة تكنولوجياً.. وقد كانت تلك الانقلابات، على نحو أو آخر، صدى للثورة البلشفية التي هزت العالم على حد تعبير الكاتب الأمريكي “جون ريد” إذ وعدت بعالم تسوده العدالة والتحرر الوطني لكن سقوطها أعطى درساً جوهرياً هو أن أيِّ بناء في عصرنا الحديث لا يكتسب مصداقيته، ولا يحقق نجاحه وديمومته إلا من خلال حرية الفرد والمجتمع التي تأخذ بمبادئ الديمقراطية السياسية.. وبغض النظر عن مآل تلك الثورة وأسباب سقوطها، يمكن القول: إن الدول التي حاكتها وسارت على خطاها، بهذا الشكل أو ذاك، عملت على دمج مهمة جيوش دولها الناشئة في إطار مهام الدولة الداخلية، وأعطت رئيس البلد منصب القائد العام لجيش تلك الدولة الذي انتقى ضباطاً موالين له بالمطلق ليعينهم كقادة أمنيين على الدولة كلها بما فيها الجيش ذاته، وعلى أعضاء الحكومة وسلطاتها المختلفة، وجميع المؤسسات التابعة لها إضافة إلى الحزب الواحد المعتمد لإنشاء ما يجري التعارف عليه اليوم بـ “الدولة العميقة” التي يصعب اختراقها، وفي أحيان كثيرة تعددت أجهزة الدولة الأمنية، فصارت تراقب بعضها بعضاً زيادة في ضمانة أمن الحاكم الذي هو فوق الجميع والمحاط بهالة من التقديس، ليظل في النهاية حاكماً أبدياً حتى وفاته، وليمنح الحكم لحظة الوفاة إلى أحد الورثة الذي كان قد أعده مسبقاً..
منذ نجاح الثورة السودانية، وكل المهتمين بها يضعون أكفهم على قلوبهم تخوفاً من عدة مسائل أوَّلها الفشل الذي قد تجلبه التركة الثقيلة للحكومة السابقة التي استمرت نحو ثلاثين عاماً. وثانيها انقلاب أطرافٍ من الدولة العميقة التي كانت سائدة وبخاصة أن بعضهم موجود في المجلس الانتقالي ذاته.. ثالثاً تقاطع مصالح دول عربية أخرى عند نجاح هذه الدولة نجاحاً يبطل مزاعمهما تجاه الربيع العربي التي وقفت في وجهه على أنه مؤامرة كونية على المنطقة برمتها وخلخلة استقرارها ولذلك عملت على إفشاله، وإن اقتضى ذلك تدمير بلدانها بالكامل.. (سورية مثلاً) إضافة إلى هؤلاء الذين يخشون على كرسي حكمهم من أن تلامسه رياح التغيير.. وليست هذه المرة الأولى التي تتعرض لها الثورة السودانية فقد جرى عدوان على المتظاهرين (اعتصام القيادة العامة 3 حزيران/يونيو2019) إذ قتل مئة وثلاثون من الشباب إضافة إلى مئات الجرحى وعشرات الفتيات المغتصبات.. واتهم بذلك ضباط ليسوا بعيدين عن عسكر المجلس الانتقالي ذاته، ولم تزل هذه الجريمة في ذمة الفاعلين.. ولعل لقاء عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي مع بنيامين نتنياهو رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي في العاصمة الأوغندية عنتيبي يوم الثالث من شباط 2020 أتى لوضع العراقيل أمام الثورة السودانية والإساءة إليها شعبياً على الصعيدين المحلي والعربي.. وأبسط ما يقال عن لقاء البرهان نتنياهو من الناحية السياسية أنه خطوة على طريق الثورة المضادة..!
لقد خطا السودان خطوات جدية أولى يمكن القول بأن نجاحها على طريق البناء الفعلي، وتحقيق شعارها الرئيس القائم على فكرة المصالحة مع الذات ومع العالم أيضاً، ولعلَّ “الذات” هي بؤرة الانطلاق، وبخاصة في السودان الذي عانى صراعات داخلية قادته إلى التشظي، وربما هددته بزوال السودان الذي عرف في منتصف القرن الماضي، أي بعد استقلاله وانفصاله عن الشقيقة مصر.. إضافة إلى ما كانت تستنزفه من أموال قدَّرتها الحكومة الحالية بـ: 80% من موازنة الدولة ورغم أنَّ المصالحة لم تتحقق حتى الآن لكن أجواء المفاوضات إيجابية..
أضف إلى ذلك ما بذله رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي يتمتع بسمعة دولية جيدة من جهود هي على وشك إعطاء ثمارها ما يعني البدء الفعلي للخلاص من التركة الثقيلة على صعد الاقتصاد والسياسة والمجتمع.. (شكلت لقاءاته في الأم المتحدة [أجرى نحو أربعين لقاء] حدثاً بارزاً أعطى السودان زخماً إضافياً وتعاطفاً مع مطالبها المحقة..)
وتبقى الإشارة إلى أن السودان إذا ما مضى في خطواته المتزنة هذه فسوف يكون بما يكتنزه من ثروات جمة إضافة إلى الخبرات التي يمتلكها وإلى الفضاء الديمقراطي الذي يتكون نقطة جذب عامة وللعرب على وجه الخصوص سواء على صعيد رأس المال أم على صعيد خبراء التنمية ما يؤهله ليكون مستقبلاً الدولة النموذج سياسياً وتنموياً و(الأمران مترابطان بعضهما ببعض) وبذلك يحقق ما افتقدته الدول العربية كافة، وبخاصة تلك الحكومات التي رفعت سقف شعاراتها أكثر مما يجب ولم تحصد في النهاية إلا الخذلان، والسبب أنها لم تدرك ما يمكن أن يحققه الشعب الحر..!