ما يشبه الحلم
القدرة على الحلم صفة إنسانية حصرية، نستطيع بخيالٍ بسيط أن نحدث فجوة في الواقع ليتحول إلى شيء آخر مشتهى أو مرغوب، يمكننا أن نبني الممالك الضخمة وأن نخوض الملاحم الطويلة بمجرد ومضة دماغية تستهلك مقداراً بسيطاً من الطّاقة، النائم يحلم دون أن تكون له القدرة على التحكم بما يراه، يكون حراً كما لا يكون في يقظته إلا أنه يمكن لعشائه الأخير أن يملك دوراً في مادته الحلمية ومن الممكن أن يقلبها لكابوس بقليلٍ من الدّسم الزائد، أما المستيقظ فيستطيع أن يتقمّص عمل الفنان لتشكيل عالمه الخيالي، ويمكن لمجموعة من الحالمين – وهم في حالة اليقظة – أن يشكّلوا طبقةً اجتماعية بمفهومها الماركسي، فهؤلاء متشابهون ومتقاربون ولديهم وقائع يومية متشابهة يريدون التغلب عليها ولا وسيلة لديهم إلا الحلم.
فالحالم غالباً ما يصنع حلمه من المادة الأولية للواقع، وهي سهلة التشكيل والصياغة، ما على الحالم سوى العبث بها ليكمل ما ينقصه من أدوات الحياة، وكلما كان الواقع فقيراً وقاحلاً كان الحلم أغنى وأبهج.
جمهور المنتظرين أبطالٌ عالميون في الأحلام، الطوابير الطويلة كطول بال المصطفين ضمنها تتداخل مع الطوابير المجاورة، وكذا تتداخل أحلام الناس داخلها وتشتبك مع أحلام أهل الطابور الأقرب إليهم، فتمتزج فيما بينها وتشكّل غمامة ضخمة من الرغبات والأماني، تمطر كلّ حين ابتسامات تعلق على الوجوه الكالحة تدوم لدقائق فقط وتزول مع زوال الغمامة.
قد تتحول الأحلام إلى مستودعات ضخمة مترعة بغاز الطهي المعبأ بأسطوانات سهلة الحمل، لا تنفذ بسرعة يمكن الحصول عليها بمجرد التفكير بها، كما من الممكن أن تتحرك أحلام المنتظرين أمام الفتحات الصغيرة وتدفع الموظف الدميم المتدثر بمعطفه الثقيل الذي يترك عادةً سيجارته في زاوية فمه بتعال، ويوزّع الأسطوانات بتثاقل مقصود، فتدفعه جانباً ليفتح أبواب المستودعات الضّخمة ويوزعها على جميع من يحتاجها، عند هذه النقطة ينتهي الحلم، وربما تنتهي الحياة نفسها، بساطة هذا الحلم تفرضها إداراتٌ تعشق سياسات التقنين لتمدّ سيطرتها على هذه الطوابير الطويلة وتترك لها فسحة واسعه تمارس حلمها البسيط المقتصر على الحصول على مجرد أسطوانة سعة عشرين ليتراً من غاز الطهي.
الأحلام البسيطة هذه حلّت مكان الأحلام الجميلة التي نريد تحقيقها، وكذا محلّ الأحلام التي نشاهدها خلال النوم ونريد تفسيرها، فالأحلام الصعبة المعقدة التي تستدعي كل تراث فرويد لنعيد ترتيبها لم تعد ترد على الأذهان أبداً فهي تحتاج نوماً عميقاً لا يمكن تحقيقه في ليالي السوريّ المليئة بالأرق والنوم المتقطّع، لم تعد أحلامنا تتسع لظهور عقدنا النفسية وترسبات طفولتنا، أحلامنا معفّرة لا تليق حتى بأن تسمّى أحلاماً هي تفاصيل تشبه الأحلام، حتى أحلام الأطفال كذلك صارت هزيلة بعد أن فقدت الطفولة أغلب الملامح التي تتحدث عنها الأغنيات والأدبيات العالميّة، غرق الطهر الطفولي في برك الطين الكبيرة ومستنقعات المياه الراكدة، اختلطت أحلام مستقبلهم بكتل الطمي التي سدت الطرق والنوافذ وشكلت سدوداً يجب عبورها لنصل الضفة الأخرى، هذه الأحلام لا تفيد معها كتب ابن سيرين وهي بعيدة عن تجليات الإيمان وغريبة عن المعجزات والخوارق.
لقد تحوّلنا إلى كائنات نشطة لا تفكّر إلا بتأمين ألف وخمسمئة سعرة حرارية ضرورية لإكمال اليوم ونحن على قيد الحياة، لا يوجد وقت للتفكير بالمستقبل، أو الحاضر ولا حتى بالكون وبما ورائه، كل ما تستطيعه تلك الكائنات هو أن تتأبط ما تسميه أحلاماً صغيرة وتبدأ بمكابدة واقعٍ جاف وصلب تسيطر عليه الكوابيس.
لكن هل يحق لنا أن نعتبر هذه الأمنيات البسيطة أحلاماً، حيث أن أحجامها لا تتجاوز الحصول على إحدى الحاجات الأساسية الملحة، يمكن أن تقاس بالسنتمتر أو بالليتر، الكثير يعتقد بأن ما نحلم به ونحن واقفون على أقدامنا لساعات طويلة حقوق بسيطة يجب أن تؤمن لكل كائن حي، واقعنا صار كوابيس صغيرة، كوابيس فجه تعكر المزاج وتمحو الأحلام المتسللة إلى بال شجاعٍ ما تجرّأ على الحلم في هذه البلاد، ولكن لا أحد يستطيع إيقافها فقوانين الجملة العصبية تفرض على الإنسان أن يفكّر طوال الوقت بهموم لا تنتهي، فلا يجد أمامه إلا هذه الأحلام البسيطة، فالأحلام الحقيقية من اختصاص الأنبياء والملوك وأبطال الحكايات المترفة، ومصير أحلامنا الوحيد هو أن تتحطم بدويّ كبير على أرصفة الانتظار بعد هجومٍ شرس من الكوابيس اليوميّة.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”