fbpx

ما بين حماس وعباس، وإشكاليات الوعي السياسي النخبوي!

0 84

مما أتى في تعقيب الصديق العزيز محمد ديوب:

“لا يمكن الاعتماد على هكذا سلطة (السلطة الوطنية الفلسطينية)، تقتل المقاومة، أو تدبّر استهداف وتسليمها للعدو، والسلطة باعت فلسطين وشعبها ولا يهمها إلا ما تقبضه ثمناً لتخاذلها!”

يبدو لي ثمة إشكالية كبيرة في طبيعة مقاربة الوعي السياسي النخبوي للعلاقة بين حماس والسلطة الفلسطينية، وما ينتج عنها خاصّة من عدم فهم لطبيعة الحرب العدوانية الإسرائيلية المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني في أعقاب هجوم طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر الماضي.

أحاول توضيح رؤية مختلفة، ولستُ مؤيّدا لسلوك حماس أو عباس، بل انحيازا للموضوعية، ودعما للشرعية الوطنية الفلسطينية، ولهداف قضيّة الشعب الفلسطيني المركزي:

 بناء سلطة ومؤسسات دولة فلسطينية موحّدة على كامل مناطق 1967، كأفضل خَيار وطني فلسطيني يمكن أن توفّره شروط الصراع التاريخي والراهن، خاصة في رؤية موضوعية لطبيعة موازين قوى الصراع بين الشعب الفلسطيني، ودولة الاحتلال.

بداية، من المؤسف أن لا ندرك أنّ ما تدبّجه هذه الأسطوانة من اتهامات ضد السلطة الفلسطينية وقيادتها -قد يكون بعضها صحيحا في سياقات الحرب المُعلنة التي أطلقتها قيادة حماس ضدّ السلطة منذ خروج الجيش الإسرائيلي وقطاعان مستوطنيه من القطاع 2005، وذلك سعيا لانتزاع الشرعية الفلسطينية- يصبّ عمليا في تعزيز دعاية وسياسات اليمين الصهيوني المتطرّف الذي وضع وما يزال في قائمة أولوياته السياسية، خاصة في أعقاب اغتيال رابين 1995، إضعاف ما حازت عليه السلطة الفلسطينية من شرعية فلسطينية ودولية، على صعيد الشعب الفلسطيني، وخارجيا، في إطار استراتيجية شاملة، ليس فقط من أجل إجهاض مسارات التسوية السياسية التي أعطت الفلسطينيين عام 1993 لأول مرة في التاريخ الحديث، سلطة وطنية فلسطينية، بل، علاوة على ذلك، من أجل تفكيك مؤسساتها الوطنية القائمة، والتي لم تكن في الواقع سوى أهم إنجازات بطولات الانتفاضة الأولى في سياق نضال الشعب الفلسطيني التاريخي ؛ وقد استخدمت سلطة الاحتلال وأجهزتها الاستيطانية أوراق ووسائل عديدة في حروبها، كانت ورقة حماس أكثرها فاعلية.. كما نرى اليوم في نتائج الحرب العدوانية الانتقامية التي بررها هجوم حماس!

المسألة الأخطر في هذه الحرب المقاومويّة على السلطة الوطنية الفلسطينية، ليس فقط تقاطعها مع سياسات اليمين الصهيوني الساعية لوأد الإنجاز التاريخي الوطني لفلسطيني، بل وتجاهلها لأهميّة شرعية السلطة الفلسطينية! الشرعية السياسية الوطنية الفلسطينية التي حصلت عليها السلطة ليست ملكا لها، ولا ترتبط قيمتها بسلوكها السياسي، لكنّها ثمرة لكفاح ملايين الفلسطينيين السلمي والحربي، وهي الإنجاز التاريخي الأوّل، وتشكّل مظلة وطنية وإطار سياسي لاستكمال أهداف نضال الشعب الفلسطيني لبناء دولة وطنية فلسطينية!

علاوة على ذلك، ثمّة مغالطات تاريخية، وحقائق موضوعية، يتجاهلها هذا النمط من الوعي السياسي المتناقض مع مصالح الشعب الفلسطيني الوطنية في تخندقه لجانب القوى التي تحارب الشرعية الوطنية الفلسطينية، تحت يافطات المقاومة!

1- قيادة السلطة الفلسطينية التي انبثقت عن منظمة التحرير الفلسطينية، والتي يتهمها هذا الشكل من الوعي السياسي النخبوي بأنّها تقتل المقاومة هي ذاتها التي قادت وشاركت في معارك وحروب مسار الكفاح المسّلح ضد جيش الاحتلال منذ 1968.. وحتى هزيمتها العسكرية في بيروت 1982.. وقد سجّلت ملاحم بطولية، تغنّوا فيها القوميون العرب طيلة عقود وباتت نموذجا عالميا لمقاومة الاحتلال، ونقلت القضية الفلسطينية إلى مرتبة الاعتراف الدولي بحق الشعب الفلسطيني في بناء سلطة وطنية على حدود 1967!! أين كانت حماس حينئذ؟

حماس ولِّدت مع بطولات الانتفاضة الأولى، في سياق مشروع إقليمي، وتقاطع مع سياسات دولة الاحتلال، وقد عبّر ظهورها المسلّح عن حاجة سلطات الاحتلال لعسكرة الانتفاضة السلمية، وتبرير استخدام وسائل عنيفة في مواجهة حجارة وقبضات الفلسطينيين.

2- لماذا نتجاهل أن تأسيس السلطة الفلسطينية وبناء مؤسساتها بعد 1993 لم تكن سوى نتيجة لبطولات الانتفاضة الأولى (وليس نتيجة لصفقة أوسلو الخيانيّة)، بين 1987-1993.. التي لم تتوقّف إلا بعد فرض اتفاقيات أوسلو، وقيام السلطة الفلسطينية. فهذه السلطة الفلسطينية الشرعية هي نتيجة لأكثر من خمس سنوات من ثورة فلسطينية شاملة، وضعت حكومات الكيان أمام ضرورات تقديم تنازلات كبيرة، فكانت السلطة الفلسطينية ثمرة مفاوضات سياسية مُعّقده، قادتها منظمة التحرير الفلسطينية، بواقع كونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني!

3- كيف نتجاهل في هذا النمط من الوعي السياسي وقائع التخادم بين قيادة حماس من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا، بهدف إضعاف شرعية السلطة الفلسطينية! ثمّة حقائق موضوعية دامغة:

مثلا، أجرى سفراء الولايات المتّحدة وبريطانيا في عمان حوارات دائمة مع قيادة حماس، وصلت أخبارها إلى الإعلام خلال 1993، وقد كانوا يتفاوضون علنا مع منظمة التحرير الفلسطينية ويفتحون قنوات اتصال سرّية مع حماس!

الأخطر من كل تلك التفاصيل، أو ربما ما يُفسّر طبيعتها، انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية الموحّدة 2007، وبناء سلطة أمر واقع ميليشاوية، تحت يافطة المقاومة، وفي مواجهة السلطة الوطنية؛ وقد شكّلت الخطوة الأخطر لقطع مسار قيام كيان سياسي فلسطيني موحّد، يشكّل ضرورة موضوعية وذاتية لإضافة القدس الشرقية إلى مناطق السيطرة الفلسطينية!!

4- هل يحقّ لنا أن نتساءل عن الهدف السياسي الرئيسي لقيادة حماس السياسية من توريط الفضائل والقيادات والشعب الفلسطيني في حرب غير متكافئة، أطلق جحيمها هجوم طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر الماضي؟

لتحرير الرهائن؟ حماية الشعب الفلسطيني؟ كلّ مسارات الحرب العدوانية الإسرائيلية الانتقامية وعواقبها تكذّب تلك الادعاءات الحمساوية، وقد ادّت إلى اعتقال المزيد من الرهائن، وألحقت تدميرا شاملا بكّل مقوّمات الحياة … وشروط التسوية السياسية، وأعادت احتلال قطاع غزة، الذي خرجت منه عصابات المستوطنين مدحورة بفعل انتفاضة الشعب الفلسطيني الثانية 2000-2005!

الهدف الرئيسي لهجوم حماس هو فرض نفسها كمفاوض فلسطيني رئيسي وشرعي، في سياق نزاعها الطويل، المتعدد الأشكال، مع السلطة الفلسطينية على الشرعية الفلسطينية!

في حيثيات الهجوم، ثمّة تجاهل إقليمي وأمريكي وإسرائيلي لدور حماس في مفاوضات التوصّل إلى تسوية سياسية منذ 2020، في إطار اتفاقيات سلام أبراهام، وقد اعتقدت قيادتها السياسية أنّ ما حصل عليه أبطال المقاومة من رهائن سيشكّل ورقة قوتها الرئيسية لفرض نفسها كلاعب فلسطيني على رقعة لعبة التسوية السياسية!!.

فكلّ هذا الدمار مقبول، بل ومشروع، في نظر قيادة حماس، طالما يتحقق هدف بقائها داخل لعبة المفاوضات الأمريكية….وها هي تنتصر فعلا، طالما لواشنطن مصلحة في بقاء قيادة حماس!!.

5- ما هي مصلحة الولايات المتّحدة في بقاء قيادة حماس على خارطة مفاوضات التسوية السياسية؟.

تدرك الولايات المتحدة جيّداً، كما طيف واسع من القوى السياسية الإسرائيلية التي تعارض سياسات اليمين لتقويض سلطة حماس، أنّ الخطر الاستراتيجي على أمن دولة الكيان يأتي من وجود شرعية سياسية فلسطينية، يُعترف بها فلسطيّنا بالدرجة الأولى، وتتحوّل إلى كيان سياسي موحّد، وليس من صواريخ أو كمائن القسّام، وبالتالي فإن بقاء حماس، وتعزيز شرعيتها التفاوضية في مواجهة السلطة الشرعية وعلى حساب شرعية تمثيلها، يشكّل أفضل مآلات اليوم التالي! لقد عبّر عن حقيقة هذا الموقف الأمريكي الرفض لشرعية ما تمثّله السلطة الفلسطيني عندما واجه بايدن بقوّة جهود دولية للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة!.

ضمن هذا السياق، ندرك معنى انتصار حماس الذي تروّج له أبواق الإعلام الأمريكي والقطري، وتنطلي أهداف دعايته على النخب المؤدلجة؟

انتصار حماس، الذي يريدون، والذي يسعون لتحقيقه من خلال الهدن، هو بقاء حماس على رقعة المفاوضات الأمريكية، إضعافاً لشرعية التمثيل السياسي الذي تجسّده السلطة، وبما يهدد الشرعية الوطنية الفلسطينية؛ وهو، إضافة إلى ذلك، تكتيكيّا استراتيجيا سياسيا أمريكيا، يعمل على إدارة لعبة الصراع بين الوكلاء والأدوات المتنافسين على الحصص ومناطق النفوذ، وتجيير نتائجها لتعزيز ادوات السيطرة الإقليمية الأمريكية!!.

6- الحقيقة الموضوعية الابرز التي يجهلها داعمو حماس، والتي لا يمكن أن تغيب عن وعي قياداتها السياسية البرغماتية الإخوانية هي الاستنتاجات التي قدّمتها دروس مسارات الكفاح المسّلح الوطني التحرري الفلسطيني منذ 1968:

في أعقاب غزو لبنان وحصار بيروت 1982، تمّ هزيمة نهج ونظرية وقوى الكفاح المسّلح لتحرير الأرض، وكانت نتيجة طبيعة لخلل موازين قوى الصراع لصالح العدو، وقد التقط فحوى الرسالة الشعب الفلسطيني بحسّه النضالي والوطني، وأدرك ضرورات ابتكار وسائل أخرى غير عسكرية، فكانت انتفاضات الشعب الفلسطيني المتتالية وما حققته من إنجازات بالمقارنة مع الكفاح المسّلح!.

في تلك اللحظة السياسية الفارقة في مسار النضال التحرري الفلسطيني، ظهرت حماس في سياق مشروع إقليمي، لتركب مرّة أخرى حصان الكفاح المسّلح، وبسلاح بدائي بالمقارنة مع ترسانة الحرب الإسرائيلية، وأيدولوجيا استبدادية، إسلاموية، متجاهلة دروس التاريخ، ومعرّضة الشعب الفلسطيني لسلة من الحروب الإسرائيلية المدمّرة، شكّل أخطرها ما يحصل في أعقاب هجوم طوفان الأقصى من تدمير شامل لمقومات الحياة والنشاط السياسي المقاوم، وقد قطعت مسارات الانتفاضات السلمية، مقدّما خدمات كبيرة لقوى التطرّف الديني والسياسي، ولحكومات الحرب الإسرائيلية!.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني