ماكرون عابراً على ورق أيلول الأصفر
ربّما ليس مصادفةً أن تكون زيارة ماكرون للبنان للمرة الثانية خلال أسابيع، مُتزامِنةً مع خريف 2020، وربّما مع خريف لبنان والعالم العربي، ومع خريف قوّةٍ فرنسيّةٍ تعيش على استحضار القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، تماماً كما نستحضر نحن العرب قروناً مضت.
هل غادرنا الاحتلال الأجنبي حقاً؟ هو سؤالٌ لم يكن وارد الطرح حتى سنواتٍ قليلة، لكنّ انهياراتٍ كبرى وقعت في الهُويات والدول العربية، ما بعد الثورات، فتحت المجال واسعاً أمام أسئلةٍ كنّا اعتقدنا أنّها مُنجَزة، وأوّلها سؤال الهُوية، وها هو ماكرون يسمح لهذه الأسئلة أن تأخذ حيّزاً جديداً. فمع انفجار بيروت الشهر الماضي، وآلاف التواقيع التي تطالب بعودة الاحتلال الفرنسي، تبيّن لنا، للمرة الألف، مدى هشاشة لبنان و”الدول العربية”، ومدى هشاشة الهُويات المحليّة/القُطْرِية، ومدى هشاشة السلطات العربية ومشروع بناء الدولة المستقلة والجيوش “التي كان من المفترض أن تكون وطنية”.
لم يكن الحدث اللبناني، ومنذ عام 1976، حدثاً محلّياً مُستقِلّاً بذاته، بل طالما كانت أزمات لبنان تعبيراً جليّاً (وتكثيفاً حادّاً) عن أزمات العالم العربيّ بأسره، وهي أزماتٌ دفعت مواطنين في عدّة دولٍ عربيةٍ إلى الاستنجاد بقوى خارجية، بحثاً عن “خلاصٍ” مُتَخَيّلٍ في تلك القوى، وتَخَلِّيَاً نهائيّاً عن هُويتها واستقلالها وحريتها السياسية، مقابل أن تحصل على حدٍّ أدنى من الاستقرار والأمان ورغد الحياة.
مع التنبيه أنّ كثيرين يحاولون ربط هذا الانهيار بالربيع العربي (عن عمدٍ أو عن جهل)، فالربيع بحدّ ذاته، لم يكن سوى عملية كشف الستار عن الانهيار الحاصل في البنى الدولتية العربية، وعن إخفاق مشروع الدولة الوطنية. ونلحظ أنّ تيار الثورات المضادّة أو التيار السلطوي والتيار الخليجي، جميعها يدفع بهذه الحجّة التي ترى أنّ ثورات الربيع العربي هي السبب المباشر في انهيار مشروع الدولة الوطنية، وليس إخفاق السلطات “الاستبدادية والفاسدة” على مرّ عقود.
بالعودة إلى زيارة ماكرون، محاولاً ترويج نموذجٍ من القوة الناعمة (الاتصال المباشر بالشارع اللبناني واحتضانه، واتصال بالنخب الفنية اللبنانية، ووسام لفيروز، والقبول بنموذج حزب الله في المعادلة السياسية)، إنّما يحاول الاشتغال انطلاقاً من عدّة أسسٍ يعتقد بها:
– فأولاً، طالما تستند صناعة السياسية الخارجية الفرنسية على محدّد “الاستعصاء التاريخي”، بمعنى أنّ فرنسا، هذه القوّة الاحتلالية الآفلة منذ زمن، ما تزال ترى في مناطق وجودها الاستعماري السابق، مناطق خاصةً بها، أو مناطق مصالح ونفوذٍ، لها الأولوية فيها. عدا عن أنّها كانت قد اشتغلت إبّان احتلالها لتلك المناطق، على تكريس هويةٍ محليّةٍ رافضة للدولة الوطنية، مُتجَاوِزةً إيّاها إلى هُويةٍ تستحضر المُحتلّ ثانية، بشكله ولغته وانتمائه.
– وتشتغل فرنسا ثانياً، من خلال “استعصاءٍ تاريخي”، تجد فيه نفسها عالقةً في أوّج قوتها الآفلة، وتعتقد أنّها ما تزال تمتلك ذاك النفوذ الدولي، وأنّها قادرةٌ على تغيير المشهد السياسي في عدّة مناطق في العالم الثالث، قبل أن تصطدم – دائماً – بواقع أفولها، لتعود خائبةً على عقبها.
– وتشتغل فرنسا ثالثاً، وتحديداً في شرق المتوسط، على هوامش بالكاد تتيحها القوى الرئيسة المُتحكِّمة في المشهد هنا (الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، وروسيا، وإيران، وتركيا)، أي أنّ فرنسا تعتقد أنّ هناك مُتّسَعاً لها حتى تستعيد حضورها الاستعماري، وتصل دوماً متأخّرة، على أمل أن تحظى بقليلِ منافع.
عبثاً يحاول ماكرون “بعث” فرنسا في شرق المتوسط، لكنّه في المقلب الآخر، إنّما يحاول الحفاظ على التركة الفرنسية كما كانت إبّان “بيكو: فرانسوا ماري بيكو”، بمعنى أنّه يحاول الحفاظ على التوازنات السياسية التي تضمن استمرار “دولة لبنان الكبير” الهشّة، وهو يعلم تماماً أنّ الشارع اللبناني بات أمام مرحلة افتراقٍ كبرى، ما يعني أنّ التوازنات باتت مهدّدة، وأيّة محاولةٍ لتغييرها ستعني غالباً استخدام القوة المسلحة: تجاه الداخل (1976-1989)، أو تجاه الخارج (2000-2006)، ما قد يُنتِج لُبناناً خارج العباءة الفرنسية، لُبناناً وطنياً هذه المرّة (لا شرقياً إيرانياً، ولا غربياً فرنسياً).
ماكرون، وهو يعبر خريف لبنان والعالم العربي، إنّما يسعى للحفاظ على هذا الخريف، وعلى حواضنه الطائفية والإرهابية، وعلى هُويته المفكّكة، وعلى انهيار مستقبله، وعلى أطماع قوّةٍ ما عاد لها في النظام الدولي من وزنٍ يُذكَر.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”